Atwasat

قيم جديدة في المجتمع الأثيني

عبد السلام الزغيبي الجمعة 26 فبراير 2021, 10:53 صباحا
عبد السلام الزغيبي

يبدو شارع "آخرنون" في العاصمة اليونانية أثينا الذي يمتد على مسافة خمسة كيلومترات طويلاً، لكنه أقصر بكثير للسائرين بعدما تراصفت على جانبيه محال يملكها ويديرها مهاجرون من آسيويين وعرب، وفدوا إلى اليونان، تبيع كل شيء: هواتف محمولة مستعملة، مراكز اتصال مع البلاد البعيدة، بقالة، تحويل أموال، مطاعم فلافل وشاروما، صالونات حلاقة، بضائع رخيصة معروضة بصورة عشوائية، محال خياطة أو ترقيع الملابس بعد أن ترك الزمن آثاره الشاخصة عليها.

بالمقابل لا يزال أهل البلاد من اليونانيين يضعون أيديهم على ما تبقى من مهن يحتضنها الشارع: مقاه، مكاتب الجنائزيات، تصليح الأقفال والمفاتيح، محال لبيع الخمور، وأخرى للمكسرات، عيادات البصريات، ستوديوهات التصوير الفوتوغرافي، محطات الوقود، مطاعم، ساحات خاصة لوقوف السيارات، وصيدليات. وهي مهن من الصعوبة أن يتنافس فيها الأجنبي مع اليوناني في سوح الشارع.

آخرنون (ويبدو للذهنية العربية أن الاسم هو لحرف النون الأخير) لكنه استمد تسميته من بطل أسطوري إغريقي، وله أنشد المغني ستاميتس كوكوتاس أغنيته "شارع آخرنون" التي يشير فيها إلى بيوت المتعة الرخيصة التي تعلق على أبوابها ضوءاً أحمر للدلالة. مركزاً على معاناة بنات تلك البيوت اللواتي يبعن أجسادهن، المكتويات بالفواجع، أمام سهو ولا مبالاة الآخرين الباحثين عن متعهم الذاتية.

الشارع يبدأ من ساحة "فاثيس" مروراً بعدد كبير من الأحياء والطرق الفرعية، وصولاً إلى "نيو خالكيذونا". فهو يتوسط مركز المدينة وطريقاً يتصل بكل الجهات، ولرخص منازله اتخذه الأجانب الذين وفدوا إلى اليونان خلال العقدين الأخيرين، مستقراً لهم. لهذا لامسه التغيير بعدما غلفوه بعاداتهم وسلوكهم وطبيعية علاقتهم.

جذب الشارع في العقود الماضية الطبقة الوسطى وبعض العوائل الثرية، وهذا ما يمكن ملاحظته من المنازل القديمة التي لا تزال ماثلة، مشيرة إلى العز الذي عاشته ماضياً.
حاضراً لم يعد مكاناً لذلك العز الغارب، فروائح الشرق وتوابله اكتسحت المكان، حيت تعرض المحال بضاعتها الرخيصة بطريقة تشير علناً إلى ضعف الانتماء للمكان، وثمة أمثال عربية كثيرة تزدري المكان الذي لا يعرفك أحد فيه، ويمكنك أن تمارس حريتك غير المشروطة في سوحه.

في تجوالي في "شارع آخرنون" شاهدت ما تركته الهزة المالية التي عصفت في اليونان، كذلك آثار فايروس كوفيد. هنا تلاحظ الكثير من النتائج المدمرة التي فرضت على اليونان: أكشاك مغلقة، نواد ليلية هجرها الساهرون، حانات أوصدت أبوابها، كازينوهات ومسارح خاوية بعدما كانت ذات زمن عامرة بزبائنها.

في المساء، ومع حلول خيوط عتمة الظلام، تدب الحياة في الشارع بعد إجازة نهارية. في الليل تبدأ الحياة تسري في جسد الشارع، حيث تمتلئ مقاهي الشيشة، فيما يقف أمام مطاعم الشاورما والفلافل زبائن بانتظار طلباتهم، وثمة حشد من المارة على جانبيه. تتكرر المشاهد في "آيوس باندليمنو" و"كاتو باتيسيا" وغيرها من ميادين يواصل الشارع امتداده عبرها، لتمنحه شهيق الحياة بعد إجازة نهارية قصيرة.

يشارك الغجر الروم حشود اللاجئين في "شارع آخرنون"، حيث وجدوا متسعاً لبيع الفاكهة والخضروات التي يشترونها من مزارع بعيدة بسعر رخيص ليبيعوها في زوايا الشارع ما يوفر لهم هامشاً من الربح.

ورغم البضائع المعروضة على أرصفة الشارع، إلا أن هناك بضاعة مخفية يحتويها الشارع، إذ ينتشر المهربون الذين يبيعون وعود السفر إلى شمال أوروبا، أمل أغلب اللاجئين الباحثين عن مستقر بعدما ضاقت بهم أوطانهم.

تتوزع على الشارع صالونات حلاقة يديرها عراقيون ومغاربة، موسيقى وأغان شرقية لجذب الزبائن من أبناء جلدتهم، ولتحريض الذاكرة عن وطن بعيد لا يزال يعيش في قلوبهم. أغان تحمل الكثير من لوعة الحب والفراق.

في موقف الحافلة خلال انتظاري اقترب مني طفلان صغيران، لبناني وعراقي، على ما يبدو، عرضا عليً سجائر أجنبية مهربة رخيصة الثمن قياساً للسعر الرسمي. أخفيا علب السجائر في جيوب داخلية بملابسهما. قلت لهما: أنا لا أدخن، غادرا بحثاً عن زبون محتمل آخر.

قيمة الإيجارات في "شارع آخرنون" كانت رخيصة، نتيجة اكتظاظه، ولكن مع هجمة اللاجئين واحتلاله، شهدت إيجارات المنازل والمحال صعوداً ملحوظاً، بالمقابل انتعاش الشارع كان فرصة ذهبية لهيئة التأمينات الاجتماعية "الايكا" ومصلحة الكهرباء والبلدية من قيمة الخدمات التي يدفعها هؤلاء الأجانب الذين منحوا الشارع فرصة الحياة بعد أن كاد الأوكسجين أن ينقطع عن رئيته.

في "شارع آخرنون" الذي يتوسط العاصمة اليونانية تسمع عبارات وجملا عربية وباكستانية وأخرى بنغالية، وترى سحنات تحمل سمات تلك الشعوب وقيما مرتبطة بها.. حتى تشعر أنك لست في أوروبا أبداً. بل في تلك البلاد البعيدة بكل تفاصيل الحياة.