Atwasat

المصلُ يا ملكَ الزمان

جمعة بوكليب الخميس 25 فبراير 2021, 12:21 صباحا
جمعة بوكليب

كنت أعدُّ العدّة لكتابة مقالة عن تزامن وصول المسبار الفضائي سالماً إلى سطح المريخ مسجلا بذلك نصراً إنسانياً وعلمياً مثيراً للإعجاب، مع كارثة العاصفة الثلجية في ولاية تكساس الأمريكية. المفارقات في الصراع الدائر منذ قرون بين الإنسان والطبيعة تتسم بشيء من إثارة، رغم ما قد تسببه من كوارث بشرية. ورغم ما أحرزته البشرية من انتصارات فإن الكلمة الأخيرة في الصراع الدائر، على ما يبدو، وعلى ما تبيّن في تكساس، مازالت بيد الطبيعة. لكني عدلت في اللحظات الأخيرة عنه، لأن موضوعاً آخر نشرته وسائل الإعلام البريطانية استحوذ على اهتمامي، لأهميته، ولعلاقته بمقالة سابقة، نُشرت في الأسبوع الماضي، تحت عنوان دبلوماسية الأمصال، تتناول تحوّل الأمصال الواقية من الوباء إلى نوع جديد من دبلوماسية دولية، صممت في بكين، لتحقيق أهداف السياسية عبر توفير الأمصال الوقائية من الوباء بالمجان للدول الفقيرة والمجاورة.

في عددها الصادر يوم الأحد الماضي، نشرت جريدة الأوبزرفر الأسبوعية، تقريراً لافتاً تناول الخلفية السرية لعملية تبادل الأسرى مؤخراً بين سورية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، بوساطة روسية. واتضح أن المصل الواقي وراء نجاح الصفقة! هذا النجاح الأخير، تحديداً، جعلني أطلق على المصل لقب ملك الزمان، مع كامل الاعتذار للكاتب المسرحي السوري المرحوم سعد الله ونوس مؤلف مسرحية «الفيلُ ياملكَ الزمان».

لدى ظهورها في وسائل الإعلام المختلفة، بدت عملية تبادل الأسرى خبراً عادياً يتعلق بعملية تبادل بين دولتين متجاورتين، وإن كانتا متعاديتين. امرأة إسرائيلية عبرت الحدود في منطقة الجولان، لسبب غير معروف، فقبضت عليها الأجهزة الأمنية الحدودية السورية واعتقلتها، واعتبرت أسيرة. من جانبها قامت سلطات الاحتلال بالقبض على راعيين سوريين واعتقلتهما، واعتبرا أسيرين. سبب أو أسباب اعتقال الراعيين السوريين غير معروفة أيضاً.

بعد مضي أيام قليلة على نهاية عملية التبادل، ظهر متضحاً ما كان مخفياً تحت قمة جبل الجليد في البحر. وبدا أن دبلوماسية الأمصال، تطورت إلى ورقة دبلوماسية تفاوضية مهمة ورابحة، قادرة على حسم قضايا ومسائل دولية تعدّ نسبياً شائكة، خاصة بين دولتين تعدان في حالة حرب. وتبين أن تنافس الصين والهند، مثلاً، على منح الأمصال الواقية من الوباء مجاناً لعديد من الدول المجاورة والفقيرة ليس سوى أول الغيث.
التقرير الإخباري الأخير، أوضح أن نجاح الوساطة الروسية بين سورية ودولة الاحتلال الإسرائيلي في عملية تبادل الأسرى قام على أساس صفقة أمصال. بمعنى أن القبول السوري بالإفراج عن المرأة كان مقابل تسليم إسرائيلي لدمشق ما قيمته 1.2 مليون دولار أميركي من المصل الروسي المضاد لفيروس وباء كوفيد.
كالعادة، وكما هو متوقع، كذبت وسائل الإعلام السورية الخبر – الصفقة ، ووصفته بالمفبرك..هكذا. على الجانب الآخر، اكتفت حكومة القيصر بوتين في موسكو، باعتبارها الوسيط، بالتزام صمت مريب. وقامت وسائل الإعلام في دولة الاحتلال بنشر الخبر حول صفقة المصل الروسي، لكن ألأجهزة الأمنية العسكرية تدخلت ومنعت نشره بحجة الإضرار بالأمن القومي. بعدها أفرجت عن الخبر – الصفقة، وعرف العالم أن للأمصال الجديدة قدرة على كبح الوباء، وأيضاً قدرة على عقد وإنجاح صفقات سرية بين دول متحاربة.

العجيب أن أخبار الصفقة رغم الإنكار السوري، والصمت الروسي، لم تمر بسلام في دولة الاحتلال الإسرائيلي! واتضح أن هناك جثتين لجنديين إسرائيليين قتلا خلال عملية عسكرية سابقة، ودفنا في قطاع غزة، وأن أسرتيهما تطالبان الحكومة الإسرائلية باسترجاعهما. وأنهما لدى سماعهما بأخبار الصفقة مع سورية، سارعتا بمطالبة رئيس الحكومة بعقد صفقة مماثلة مع قادة حماس في قطاع غزة. أي عرض المصل الواقي لقاء الإفراج عن الجثتين. على اعتبار أن إرجاع جثتي جنديين إسرائيليين قتلا يدافعان عن إسرائيل أولى من إرجاع امرأة عبرت الحدود لأسباب غير معروفة.

الجدير بالملاحظة، أن حكومة نتنياهو تمكنت، خلال الأزمة الوبائية، من ضرب عصفورين بحجر. إذ تمكنت أولاً من المسارعة بعقد صفقات شراء أمصال من مصادر مختلفة، وقامت ثانياً بأسرع عملية تطعيم للسكان البالغ عددهم 9 ملايين نسمة، حتى صارت مثالا يحتذى للدول الغربية. مواطنو الضفة الغربية وقطاع غزة العرب لم يشملهم التطعيم، باستثناء 100 ألف منهم يعملون داخل المدن الإسرائيلية. آخذين في الاعتبار أن الحكومة الإسرائيلية تمكنت من شراء كميات كبيرة من الأمصال، وأن كميات كبيرة متبقية منه في مخازنها، وبدلا من أن تذهب لوقاية سكان الضفة والقطاع، قررت الحكومة الإسرائيلية الاستفادة منها في عملية التفاوض مع دمشق.

واستناداً إلى التقرير، فإن كميات المصل الروسي التي حصلت عليها دمشق تعدّ صغيرة، لكن حرص المسؤولين في دمشق على الحصول على المصل، ليس دليلاً على حرصهم على توفير حماية للشعب السوري بقدر ما هو حماية لأنفسهم ولأبنائهم ولأقاربهم ومن يدور في مداراتهم وخاصة في الأجهزة الأمنية السرية والعسكرية والحزبية.