Atwasat

زوربا السوداني

سالم الكبتي الأربعاء 24 فبراير 2021, 02:21 صباحا
سالم الكبتي

الزول الروائي. الممتلئ بالحنين إلى النيلين الأبيض والأزرق والمهو,س بالمتنبي. الطيب صالح كان وحيدا هناك ذات أصيل. كان ذلك آخر عام 1980. في شرفة فندق برنيتشي في بنغازي الذي أضحى أثرا بعد عين وسدت ركاماته الدروب يتطلع الى البحر.. يحلق ببصره بعيدا. كان وحيدا جالسا يحتسي قهوته. حضر ضمن وفد المنظمة العربية للعلوم والثقافة.. (الأليسكو). كانت المدينة تعيش وحشة ووحدة أيضا. لا أحد اهتم به. لا أحد اقترب منه. لا أحد عرف أنه الطيب صالح شاغل الناس بالكلمة. بأنفاس الرواية وعبق الشمال والجنوب.
كان وحيدا في الشرفة. في بنغازي الموحشة أيامها. نهض من جلسته. فرغ من سيجارته ودخل القاعة مواصلا مشاركته في اجتماعات المنظمة الثقافية. التي ظلت شاهدا على الفراغ الثقافي تلك الأيام في المدينة. لم يتم أي تواصل مع الطيب وصحبه. لم يسأل عنهم أحد. أو يجلس معهم أحد.

في أعوام ماضيات كان للطيب خيوط لم يتم اكتمال غزلها عندنا. وكانت بنغازي في دائرة الاهتمام والمتابعة لعطائه وبداياته. عندما أنجز عام 1966 روايته العظيمة (موسم الهجرة إلى الشمال) كان ثمة تفكير لدى رشاد الهوني الذي يعرف قدر المواهب الكبيرة على امتداد المنطقة، وهو الشاعر والقاص قبل أن يكون صحفيا ماهرا، لنشرها عبر جريدة الحقيقة.. هنا في بنغازي. كادت أن تنشر للمرة الأولى فى بنغازي.. لكن حالت الأحوال دون ذلك ووجدت طريقها للنشر في مجلة حوار مطلع عام 1967 في بيروت.. لا أحد يدري ماهو السبب الذي جعل الخيوط لايكتمل نسيجها في ليبيا.

اشتهرت الرواية وانتشرت على نطاق واسع عندما تم طبعها في كتاب. ونالت الدراسات من كبار النقاد في الوطن العربي وخارجه أيضا، ثم تتالت بقية أعماله الكبيرة التي لاتقل أهمية عن روايته الفخمة: دومة ود حامد وعرس الزين التي أضحت فيلما في الكويت. وبندر شاه ضو البيت. والعديد من المقالات في الصحف والدوريات داخل الوطن العربي وخارجه. كان الطيب صالح فنانا بقلمه يصدح بالإنسانية والحرية. عندما يرتدي جلابيته وعمامته السودانية البيضاء أو بذلته الأوروبية. لم يكن ثمة انفصام بين الذات والموضوع. بين الشخصية والسلوك. كان الحكمة السودانية التي يتدفق منها النيل والصبر ومعايشة الأيام.

المهتمون والنقاد واصلوا عنايتهم بما يصدره الطيب صالح دراسة وإشادة. وعرفت أوروبا في بعض مراحلها المعاصرة أن للعرب أصواتا من رجاحة العقل والفهم والتحدي وصنع الحضارة إذا أتيحت لهم الفرصة المناسبة. وكان الطيب صالح أحد أصوات العرب من السودان.. شبه القارة الغنية والحافلة بالحضارة القديمة والحديثة وملتقى النيلين والذي يجلس في جانب منه على ضفاف البحر الأحمر الذي أعطى مثلا مهما للمبدع والمثقف العربي. وصار جزءا مكملا للوحة ينتظم عقدها بعمالقة الرواية العربية.. يطورها.. ويمنحها من أنفاسه وقدراته وموهبته بعد أن كان العرب أمة ديوانها الشعر فقط. الرواية التي طرأت بعد الشعر على زمن الإبداع العربي لاحقا كانت ديوان الأمة ألنثري. تجاوز العرب مرحلة الخيوط القديمة. الوقوف والاستيقاف والبكاء على الأطلال وامتطاء الناقة والرحيل من الديار. صارت الرواية تحكي عن واقع جديد ورؤية جديدة. وحلم يلوح بعيدا.

ظل الطيب تلك الفترة من حياته يقيم في لندن منذ أوائل الخمسينيات في القرن الماضي يعمل في القسم العربى بإذاعتها التي يتحلق حولها العالم العربي أكثر مما يقترب من إذاعاته ومحطاته المختلفة. كان لتلك الإذاعة طعم يختلف عن غيرها. كان مذيعا ومقدما للبرامج ومحاورا للكثير من الشخصيات والقامات الفكرية والسياسية والفنية من ديار العروبة التي تزور لندن. باختصار، كان ضمن جيل المواهب العربية الممتازة التى عملت في إذاعة لندن وشعرت كثيرا بالحرية والاستقرار والأمان ووجدت براحا واسعا من التشجيع والمساندة لم تجده في رحاب أمتها التي أجادت القمع والإرهاب.

زوربا السوداني ابن القرية السودانية الأصيلة.. (الدبة) من منطقة مروى الواقعة شمال السودان. المنطقة التاريخية العريقة التي شهدت امتزاج وتواصل الحضارات القديمة. المطرب السوداني الكبير عبدالكريم الكابلي الذي عرفته أيضا عندما حضر إلى بنغازي عام 1974 وألقى محاضرة عن الفن السوداني الرائع وكل ألوانه المبهجة يصحبه عوده ويعطي من خلاله أمثلة فنية لكل أنواع تراث السودان. ونال الدكتوراه عن ذلك الموضوع. الكابلي الفنان تغنى بمروى وحضارتها.. مروى يامروى.

خلال إقامته في أوروبا وعبر الصقيع والثلوج وضباب المداخن الأسود طوال الأيام حمل الطيب صالح الأسمر السوداني القرية في أعماقه. التراث والتاريخ ودقات الطبول والعاج والروائح وتنوع الأعراق وهدير النيلين وفيضانهما والأمطار الاستوائية وصبر الرجال. العروبة والزنوجة. البحر الأحمر والغابة. العادات والتقاليد. كان معه أينما أقام ورحل مصطفى سعيد والزين ومحجوب وضو البيت والنيل الأزرق والأبيض وأم درمان وعطبره وسواكن. حياة تضج وتمور بالحياة. كان زوربا السوداني هو مصطفى سعيد الذى صدمته الحضارة الغربية.. وهو الزين في عرسه.. أو محجوب تحت نخلة على الجدول.. أو الصبى الجائع المتطلع إلى حفنة تمر تكفي الحاجة وتسد الرمق.

كان زوربا السوداني في ذلك كله هو الطيب صالح يصطحب أبطاله دون خجل عبر العالم المذهل. وكانت القرية البسيطة البعيدة عند الضفاف.. بل السودان كله يتحرك فى تلك الروايات والأعمال بصورة كاملة. زوربا السوداني بعمامته وجلابيته البيضاوين منطلق الإهاب. يدق الطبول.. ويحمل بوق العاج.. ويغني ويرقص.. مع المامبو والحرف والكلمة. الزول السوداني!!