Atwasat

الأمير والسعداوي وسيف النصر

سالم العوكلي الثلاثاء 23 فبراير 2021, 01:25 صباحا
سالم العوكلي

في كثير مما كتبت كنت أركز على مدينة طرابلس وما يحدث فيها، محتجا عن سرقة هذه الحاضرة العريقة من الحلم الليبي ومن دورها كزعيمة للكيان من قِبّل تيار متطفل عليها. وكان بعض أصدقائي وصديقاتي (المتعصبين) بحب لطرابلس يسيئون فهمي. أقدر هذه الغيرة الطبيعية، لكن طرابلس، بغض النظر عن علاقتي العاطفية معها، طرابلس لا تمثل لي جهة أو إقليما، بل العاصمة وقلب ليبيا التي لن تصلح إلا بصلاحه، وكل ما يشوش عليها يؤثر على كل ليبيا.

تتضح لي أهمية طرابلس، وفي الوقت نفسه تعقيد أوضاعها التاريخي، كلما تقدمت في قراءة كتاب أدريان بيلت الضخم (استقلال ليبيا والأمم المتحدة)*، الذي أحسست وأنا أطالعه أنه لم يغط أحداثا حصلت قبل سبعة عقود فقط، بل كأنه كتاب يقرأ طالع ليبيا، أو يتحدث عن المستقبل، وحين يصبح الماضي أمامنا ندرك أننا فعلا تهنا وأخطأنا الطريق، أو أننا انعطفنا بشكل حاد دون أن ندري إلى خلف أوصلنا من جديد لمهد الدولة الليبية الأول، أو بالأحرى إلى نطفتها في ظهر الأمم المتحدة.

في كتابه يطرح أدريان بيلت تفاصيل كثيرة عما حدث في أهم عامين مر بهما هذا الكيان في طريقه للولادة كدولة وطنية، وهو إذ جاء منفذا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 289 (4) وفق مبدئين أساسين في مهمته (استقلال ليبيا ووحدتها)، إلا أنه حين احتك بالأرض وبالناس، بالجغرافيا والتاريخ، تأكد له أنه لا يمكن أن يتقدم خطوة في مهمته إلا عبر التعامل مع هذا الكيان كأقاليم شبه منفصلة قابلة للتوحيد، وقد شرح الأسباب التاريخية والجغرافية وراء ذلك.

لكن ما يعنيني في هذا السياق هو العقبات التي واجهته فيما يخص طرابلس خصوصا، كمركز للغرب الليبي فيما يتعلق بتشكيل الأجسام المختلفة التي سعى لتكوينها في مجتمع تركته الفاشية مائعا وسائبا تحت إدارات عسكرية أجنبية، بينما تميز إقليما برقة وفزان بالسلاسة في اختيار ممثليهما في مجلس ليبيا، وفي لجنة الواحد وعشرين، ومن ثم في لجنة الستين. وهذا أمر يحمل إيجابيات بقدر ما يحمل من سلبيات، ويرجع إلى كون طرابلس التي كانت مركزا للحكم طيلة قرون، محتلةً أو مستقلة أو شبه مستقلة، عاشت زخما سياسيا وإدرايا طويلا راكم فيها الخبرات والنخب، كما أنها حاضرة وسط محيط من المدن والتجمعات القبلية المتنافسة التي كثيرا ما صدرت صراعاتها إلى قلب طرابلس.

كان الوصول إلى توافق في أي مبادرة يشكل صعوبة كبيرة في طرابلس، بينما برقة وفزان كانت مجتمعات تميل لفكرة الزعامة، روحية أو اجتماعية، وهذه الزعامة التي مثلها الأمير في برقة والسيد أحمد سيف النصر في فزان سهلت على المفوض الكثير من الصعاب. لكن مع ظهور شخصية تملك ملامح الزعامة، وهو بشير السعداوي العائد من المنفى مثل الأمير، استطاع بحنكته والكاريزما التي يتمتع بها أن يشكل نوعا من الإجماع، عبر توحيده لأحزاب مختلفة تحت مظلة حزبه المؤتمر، أو عبر جولاته في المدن والقبائل المحيطة بطرابلس، دون أن يمنع هذا أن بعض معارضيه من أحزاب صغيرة لم تنضوِ تحت تكتله. ثم التوافق الكبير الذي حصل في هذه المرحلة بين الأمير والسعداوي ذلل الكثير من الصعاب، كما أن تأثير الأمير القوي على سيف النصر جعله دائما وسيطا للمفوض كلما قابلته عقبة في فزان، وكما يطرح أدريان مرارا، فإن الاتفاق في كل أقاليم ليبيا وأغلب القوى السياسية في طرابلس وضواحيها على السيد إدريس كحاكم مستقبلي وضامن لوحدة البلد هو ما أسهم في حل الكثير من الصعاب.

بعد الانتهاء من اختيار لجنة الواحد والعشرين بعد جدالات طويلة كلجنة تحضيرية لتأسيس الجمعية الوطنية (لجنة الستين) لوضع أهم قاعدة للدولة الجديدة وهو الدستور، ظهرت مشكلة أمام المفوض تتعلق بإصرار فزان على انتخاب هذه الجمعية وليس اختيارها أو تعيينها (دائما كان السعداوي يرفض فكرة الانتخابات).

في الاجتماع الثالث للجنة الواحد والعشرين والبدء في مناقشة البند الثالث من جدول أعمالها المتعلق بـ "هل تكون عضوية الجمعية بالانتخاب أو بالاختيار" يذكر المؤلف (المفوض) العقبة الكأداء التي واجهته في طبيعة تكوين هذه اللجنة: "كانت الحجج المؤيدة والمعارضة قد سُمعت من قبل في مجلس ليبيا. ولكن بشكل مستغرب إلى حد ما، كان ممثلو فزان، باسم الديمقراطية، هم من اتخذ موقفا عنيدا في صالح الانتخابات، وتمسك الطرابلسيون بأن الانتخابات الحرة لن تكون حرة إلا بالكاد مادامت الإدارة البريطانية تحكم البلاد. وساند البرقاويون الآن الطرابلسيين "لأنهم شعروا (البرقاوين) أنه بحسبان أن انتخابات قد أُجريت منذ عدة شهور في إقليمهم، وباعتبار أن الوقت القصير المتاح سيجعل من المستحيل عمليا إجراءها في طرابلس، فمن الأفضل التخلي عن الفكرة". وعند هذا الحد توقفت عملية تأسيس الجمعية الوطينة أمام إصرار الفزانيين وزعيمهم سيف النصر الذي سافر المفوض لمقابلته، وعلى الرغم من زيارته إلى سبها وإجراء حديث مطول مع أحمد بي سيف النصر "لم تكن الجهود مثمرة."

ولم يكن أمام المفوض مثلما حدث أكثر من مرة إلا أن يلوذ بالسيد إدريس "عبر إقناع الأمير بإرسال متحدث شخصي باسمه موثوق لإقناع أحمد بي. وبعد أن تواصل معه في هذا الأمر المفوض، الذي غادر في تلك الأثناء إلى نيويورك، قرر الأمير إرسال عمر شنيب، رئيس الديوان الأميري. ولأن هذه المهمة "كانت شأنا محليا ليبيا خاصا، ابتعد المفوض وفريق موظفيه عن التدخل فيها، باستثناء تأمين الطائرة".

والنتيجة أنه في اليوم التالي لعودة شنيب من فزان في 12 أكتوبر 1950 أفاد ممثلو فزان السبعة في لجنة الواحد والعشرين "بأنهم على استعداد لقبول مبدأ الاختيار لأعضاء الجمعية الوطنية بشرط أن الأحزاب السياسية الرئيسة في طرابلس وأيضا ذلك الجزء من السكان الذي لا ينتمي لأي حزب، تكون ممثلة في الجمعية".

وحقيقة وقفت عند هذا الجزء كثيرا، وتساءلت لماذا رفض السعداوي مرارا الانتخابات في كل جسم تم تشكيله من الأقاليم الثلاثة؟ وماذا يعني ما ورد في إفادة الفزانييين عن تمثيل جزء من السكان لا ينتمي لهذه الأحزاب؟. فهل كانت الأحزاب في طرابلس تشكيلات نخبوية لا تعكس القاعدة الشعبية أم هي مزايدة من قبل ممثلي فزان؟ لكن يبقى المفارق أن فزان ذات القوى القبلية كانت هي المصرة على الانتخابات كمسار ديمقراطي، وطرابلس ذات الأحزاب والقوى السياسية كانت ضدها بالمجمل. غير أن الثابت كان دائما التعقيد والصعوبة التي تظهر حين يتعلق الأمر بممثلين لطرابلس، وهو أمر ليس سلبيا (لأنه ينفي فكرة الزعامة لصالح التعدد) إلا في ظروف محددة يكون فيها مستقبل الكيان على المحك كما كان في تلك الفترة حيث كان "بدء العملية بالكامل مرة أخرى سيعرض نيل ليبيا لاستقلالها قبل 1 يناير 1952 للخطر."
وكل هذا يحيلنا مرة أخرى للحظة الراهنة ومؤتمر جنيف، وحيث كما ذكرت سابقا، تشبه لجنة الواحد والعشرين في مهمتها لجنة ال 75 التي اجتمعت في جنيف، باعتبار تم تعيينها وليس انتخابها وبتدخل مباشر من المفوضة بالإنابة بعكس لجنة الواحد والعشرين. ولأن الحديث عن أن طرابلس كانت مرة أخرى خالية من التيارات السياسية ماعدا تيار واحد غير منتخب ومهيمن على وضع قوائم السلطات التنفيذية وآلية انتخابها، ويعود من جديد قلق الفزانيين قبل 70 عاما عن تمثيل سكان طرابلس غير الممثلين فعلا في اللجنة وفي مخرجاتها.

وتبقى الحاضرة التي شكلت مركز ودينامو هذا الكيان عبر التاريخ خارج المشهد تعاني كل مترتباته السلبية ومعاناته دون أن يكون لها دور في مخرجات أي مبادرة. ما يعيدنا إلى الجدالات نفسها التي حصلت قبل 70 عاما عندما كانت ليبيا على المحك، لكن 3 شخصيات وطنية آثرت ليبيا على أهوائها وأجنداتها الخاصة كان لها دور كبير في تجاوز كل العقبات، (الأمير، والسعداوي، وسيف النصر). زعامات: روحية، وسياسية، واجتماعية.

ويبدو أن زمن زعامات الأشخاص انتهى، ويبدأ الآن الصراع على زعامات المدن، ورغم أن ثمة مدنا هامشية تنازع طرابلس زعامتها التاريخية، إلا أن طرابلس كانت طيلة قرون روح ليبيا وستظل، ودونها لا روح لهذا الوطن.

* كل العبارات بين علامتي التنصيص" " من كتاب (استقلال ليبيا والأمم المتحدة ـ حالة تفكيك ممنهج للاستعمار) تأليف: أدريان بيلت، مفوض الأمم المتحدة. ترجمة: محمد زاهي المغيربي. منشورات: مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة بالتعاون مع: كلام للبحوث والإعلام.