Atwasat

فسحة سمية

محمد عقيلة العمامي الإثنين 22 فبراير 2021, 02:42 صباحا
محمد عقيلة العمامي

(فسحة سُمية) تقع بشارع هدى شعرواي، في القاهرة؛ وقد يكون لمقالي هذا علاقة، على نحو ما، بهذه السياسية الإعلامية الشهيرة، التي تسمى باسمها الشارع، باعتبار أنها من أبرز، وأقدم رائدات النهضة النسائية في مصر. وهي التي قامت العام 1921 أثناء استقبال المصريين لسعد زغلول، بخلع الحجاب علانية أمام الناس وداسته بأقدامها رفقة زميلتها (سيزا نبراوي)، فانفعلت بعض النسوة، وخلعن الحجاب أيضا، فيما أخذ بعض الرجال يصفقون، وبعض النسوة يزغردن.

في منتصف هذا الشارع، الذي تسمى بهذه الرائدة، وعند ناصية شارع صغير يقودك نحو ميدان «باب اللوق»، تجد باب الفسحة سماوي اللون، وكذلك نوافذها، وعلى يسار الباب يافطة محفورة بأناقة تعلن أنها «فسحة سنية»، التي دخلتها أول مرة، منذ سنة أو اثنتين، معتقدا أنها معرض لمصنوعات يدوية تراثية، ولكنني اكتشفت أنه مطعم صغير ونظيف، وأنيق، وجيد الإضاءة، فأكلت فيه وجبة من أطباقه. وعدت إليه مرات كلما جاءت بي طريقي نحوه. منذ أيام كانت قائمة ذلك اليوم تحوي لحمة بالفرن في صلصة الشكولاتة! ولا أخفي عليكم دهشتي، واستغرابي ولذلك طلبت ورك فرخة في الفرن على الطريقة المغربية، وكانت لذيذة، ولما أبديت لصاحبة المطعم استغرابي من لحمة الشكولاتة أصرت أن أتذوقها، وكانت ممتازة.

حديثي مع الطاهية، من خلف نضد قدور وجباتها، بين لي أنها «الشيف»، وهي أيضا، صاحبة المطعم، وأنها من أولئك الذين يعشقون الطهي، الذي كتبت عنه ذات يوم قائلا أن «الطبخ إبداع .. فن، فالطاهي كالرسام الذي يمزج ألوانه ويصهرها برؤيته، ويطرزها بريشته (فيخلق) لنا لوحة تبهر أبصارنا وتدخل البهجة إلى قلوبنا. وكالشاعر الذي ينتقي كلماته، وجمله، وتشبيهاته، وبمعاناته وإبداعه (يخلق لنا) قصيدة تثير أحاسيسنا وتفجر عواطفنا! وكالموسيقى يختار ترانيمه وإيقاعاته ويبدع لنا نغما يطربنا ويشجينا. أما الطاهي، فهو ينتقى بهاراته وأعشابه ونكهاته، ويبتكر لنا وجبة نستمتع بحسن مذاقها. جميعهم مبدعون، والإبداع فن، يحتاج بالدرجة الأولى إلى الموهبة».

والسيدة سمية مبدعة في أطباقها المحددة كل يوم، موهوبة في تنسيق فسحتها الصغيرة في مساحتها، والواسعة في أناقتها وألونها وديكورها، وحسن تنسيق مناضدها، أما أروع ما لفت انتباهي، أنها من خير ثمار نهضة مصر النسائية، وبدأ لي أن انتقاءها لشارع هدى شعراوي، لم يكن مصادفة، وإنما امتنانا، وعرفانا بما قامت به تلك السيدة، من أجل نيل المرأة المصرية حقوقها وأن نجاحها وتميزها في المجالات كافة، هو من ثمار تلك النهضة، فلقد أصبحت قادرة على مشاركتها في المجالات كافة، فما بالك بـ (نفس) المرأة في الطهي، خصوصا عندما يكون مهنة!

السيدة (سمية) هي طاهية المطعم، وتساعدها امرأتان، إحداهما تتولي خدمة الزبائن، والثانية غسل أطباقه، ونظافته، وسمية هي مديرته، من مشتريات احتياجاته اليومية إلى ابتكار أطباقه، وطهيها وصولا إلى مواعيد تقديمها، التي تبتدئ من الساعة الخامسة مساء كل يوم. لا وجود لعامل ذكر على الإطلاق، أما العمل فيسير بنسق وانتظام عجيبين، فليلة الخميس مثلا يكثر الزبائن، ويتعين عليهم الانتظار أمام الباب، على الرغم من وجود مناضد خالية، والسبب حرص الفسحة على المساحات التي يتعين مراعاتها بسبب (الكورونا)، وهو أمر لا تجده بالدقة المرجوة في عدد من تلك المطاعم التي يديرها الرجال.

تأملي ليلة الخميس الماضي ومراقبتي للاهتمام، والنظافة، وحسن تنظيم الانتظار، جعلني أعود إلى موضوع كنت قد قرأته من قبل عن ليلة شهرزاد الأولى وبقية الألف!. وهو رأي يقول: " يخطئ من يقول أن حكايات "الف ليلة وليلة" ابتدعت للتسلية فقط، أو لإبراز ذكاء المرأة وسعة حيلتها، فشهرزاد استطاعت أن تنقذ رأسها من مقصلة صباح اليوم التالي، بشد انتباه السلطان الذكر، بحكاية شائقة لم تنهها، بتأجيلها لليلة التالية".

في تقديري أن المرأة، سواء، بعفوية أو تعمد فضلت البقاء تحت جناح الرجل وإمرته، إما لسهولة العيش والبقاء، أو بسبب أنوثتها، التي تجدها في الاستكانة لرجل يقوم بدلا منها بالمشاق، فيما تتمطى طوال يومها من فوق أريكة إلى أخرى، مثلما تصور لنا كتب التراث المرأة الباذخة! هذا الحال برز في أكثر من واقعة ارتبطت بحكايات شهرزاد.

غير أن بعض البحاث يرون أن حكايات ألف ليلة تأسست على شذرات حقيقية، منها أن أم جعفر البرمكي، كانت تجهز له كل ليلة جمعة عذراء، يفتض بكارتها ليدوم شبابه! ولقد سمعت من تجار صينيين، كبار السن يُحييون شبابهم بقضاء إجازة في الجبال والأرياف، حيث يتوفر لهم الزواج من فتاة عذراء، تطيل شبابهم ونضارة فحولتهم الآخذة في الغروب! والواقع أنني اعتقدت أنها من حيل رجال أعمال العصر الحديث للسيطرة على زبائنهم، ولكنْ صينيون، وصينيات، كثيرون أكدوا لي أنها حقيقة ومعروفة لدى الصينين تجارا كانوا أم صعاليك.

ونحن نعلم أن الرجل الشرقي، في الغالب ينال رضا أنثاه بقدر ما يقدمه لها من هدايا، ويرتفع هذا الرضا بحسب قيمة هذه الهدية، وهذا يجعلنا نربط ما بين هذه الرؤية، وأم جعفر البرمكي، التي جعلت من بنات جنسها سلعة، أو كالمادة الطبية التي يدعم الرجال بها شبابهم. والمسألة، إذن، قناعة المرأة نفسها، التي ترى أن تقدم نفسها مقابل (هدية) قيمة، أو حتى معاملة قيمة، أو تتجمل من خلال إبداعها أو تفننها لتلفت نظر الرجل. أو أن تكدح وتعمل وتنتج، وتبدع لتكون هي من تستمتع بحكايات شهريار، الذي عليه أن يتفنن في حكاياته حتى لا يصبح مجرد ذكر عنكبوت سيئ الحظ، يفقد رقبته من بعد الحكاية الطريفة اللذيذة!.