Atwasat

الإنسان الإنساني والإنسان الافتراضي

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 21 فبراير 2021, 01:02 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

لعل أفضل تعريف لعصرنا، منذ ما يربو على ثلاثة عقود، هو أنه عصر العالم الافتراضي. فـ "الافتراضية" أخذت تزحف على حياتنا اليومية وتهيمن عليها بشك حثيث.
ولعل أكثر هذه العناصر افتراضية هي النت ومواقع التواصل الاجتماعي والبرامج التي تتيح عقد ندوات ومؤتمرات يتوزع المشاركون فيها على أكثر من بلد وفي قارات مختلفة ومتباعدة.
فلقد أصبحنا نقرأ على شاشة الحاسوب كتبا افتراضية خارج إمكانية اللمس وتقليب صفحاتها بالأصابع، ونكتب على ورق افتراضي بحبر افتراضي، ونرسل رسائل افتراضية إلى أصدقاء افتراضيين عبر بريد افتراضي... إلخ.

وقد ازداد هذا "الواقع (= العالم) الافتراضي" اقترابا من الواقع أو العالم الفعلي وضاقت الحدود بينهما إلى حد مذهل من خلال اختراع الإنسان الآلي القادر على التصرف بشكل مستقل عن خالقه. فهو قادر على التفكير المستقل والنقاش والتصرف الإرادي والعمل في الوظائف والأعمال المختلفة بديلا عن "الإنسان الإنساني (= الطبيعي)". وحتى ملامحه صارت تقترب بشكل مذهل من ملامح الإنسان الفعلي ويمتلك "أساريرَ" قادرة على عكس تعبيرات عن مشاعر وانفعالات وعواطف، حتى إنه في مستقبل قريب لن يعود "الإنسان الإنساني" قادرا على التمييز بسهولة إذا ما كان "الشخص" السائر إلى جانبه في الشارع أو الجالس قربه في حافلة أو قطار إنسانا مثله أم هو "إنسان افتراضي (= صناعي)"!.

لكن ينبغي أن نتذكر أن الافتراضية لازمت الإنسان منذ أن استقل عن مملكة الحيوان وصار متحكما في الطبيعة إلى حد كبير. فافترض إمكانية السيطرة على الطبيعة والتأثير في الكائنات، بما في ذلك أمثاله من البشر، عن طريق السحر. وافترض أن الروح سارية في العالم حيوانه ونباته وجماده. وافترض وجود آلهة متصرفة بالكون والحياة تتحالف وتتناسل وتتصارع وتحيك لبعضها المؤامرات والدسائس. وافترض وجود كائنات خفية فوق إنسانية، لكنها أقل مرتبة من الآلهة، يمكنها أن تؤثر، سلبا وإيجابا في حياته. وافترض وجود عالم مواز للعالم الذي يعيش فيه أسماه "العالم السفلي" يذهب إليه البشر والآلهة الذين يموتون ليعيشوا حياة شبيهة بالحياة الفوقية الفعلية.

إن الفنون نفسها، ناشئة عن تصور عوالم افتراضية. فالرسم، في منشئه، فن افتراضي يفترض وجود علاقة اتصال مباشرة بين الحيوان المرسوم، مثلا، وبين الحيوان السارح في البراري أو الغابة، وأن طعن الأول برمح يؤثر في وضع الأخير. والأساطير والحكايات المسرحيات والملاحم، ولاحقا القصص والروايات، هي عوالم افتراضية لـ "حياة الآلهة والكائنات الخفية" والبشر. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى التصوير الثابت والسينما.

وحتى في الفلسفة والعلوم تلعب الفروض (= الفرضيات، الافتراضات) دورا مؤسسا. والمسائل الرياضية والفزيائية التي يحلها التلاميذ والطلبة في المدارس والمعاهد والجامعات هي تمثيل افتراضي للواقع.
وعلى هذا الأساس يمكن إضافة تعريف جديد لتعريفات الإنسان السابقة، من مثل أنه حيوان ناطق أو عاقل، بأنه حيوان خالق افتراضات. هذه القدرة على خلق عوالم افتراضية هي أساس تطور الإنسان وما أنجزه من صناعة وفنون ومعارف، وبالمجمل، أساس التاريخ الإنساني والحضارة الإنسانية.

لكن لهذه القدرة أساس آخر حاضن، ألا وهو الخيال، أو التخيل. لذا يمكن تعريف الإنسان أيضا بأنه حيوان متخيِّل.