Atwasat

خـارطـة مـن ورق

نورالدين خليفة النمر الأحد 21 فبراير 2021, 12:57 صباحا
نورالدين خليفة النمر

تتعرّب سيرنيكا اليونانية إلى برقة الليبية، وطريقةً وحقيقة تؤسلِمها السنوسية سياسةٌ لن تتكرر عنوانا لكتاب الأنثروبولوجي البريطاني إيفانز برتشرد. لكن المُتكرر دائما آليات الانقسام المجتمعي بشأن الغنيمة: سلطة، وبعد اكتشاف البترول ثروة .

يتبث في الذهن المتكرر الخلدوني المغلق على العصبية، وتعديله يكون في ملاءمة الـProcess الغربي مع الواقع الفجّ كما هو الآن، ومنذ ما بعد الحرب الـعالمية الثانية، لينتج عملية سياسية ترضي مصالح التنافس الدولي في ليبيا. وتُعاد الخطة البسيطة لتأسيس دولة ليبية من ثلاث أقاليم عام 1952، والتي لم تواجه بصعوبات إلا في الإقليم الطرابلسي. فبرقة الطرفية قبائل سعادي ومرابطيها القليلة العدد توافقت على السنوسي الجزائرية أصوله أميراً يتكلم باسمها. بينما طرابلس مشروع المركزية الناجح تاريخاً المخفق جغرافيا، تشتتت فيه الزعامية في أحزاب استقلال ذوّبت فيها مدنية النخبة الاجتماعية في طرابلس عناصر الجهوية والقبلية وحتى الإثنية في الغرب الليبي الممتد للجنوب الفزاني .

في إقليم برقة المبتديء من أجدابيا شرقاً إلى سهل البطنان المنتهي بطبرق توجد حتى اليوم، إلى جانب قبائل السعادي، البني سُليمية العربية تقريباً 21 قبيلة ليبية تم تذويبها في مجموعات مُرابطية "بركة وصدقة وعصا"، القبائل المرابطية التي أبرزتها عوامل الانقسامية المجتمعية في شرق ليبيا إلى جانب السعادي منذ أحداث 2014 هي الزوية، والمسامير، والفرجان، والمنفه التي أُنتخب أحد أبنائها لقيادة مجلس رئاسة مؤقت حتى الانتخابات التشريعية والرئاسية الليبية المحتملة في 24 ديسمبر2021.

السنوسية، وإن كانت مشروعاً في الإصلاح الفقه ـ سياسي، تظل طريقة صوفية وجهّها الجهاد كالمهدويات الأخرى الشاذلية والمهدية ضد الحدث الاستعماري الفرنسي في السودان الغربي، والإيطالي في ليبيا، والصدام مع بريطانيا تحت المظلة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. والذي عززّ نفوذها إدارتها لتجارة القوافل الصحراوية بين السودان الغربي عبر الواحات الليبية الكفرة والجغبوب وسيوة المصرية حتى أسواق الإسكندرية .

عندما كُلف برتشرد مسؤلاً عن الشئون القبلية في برقة عام 1944، مستشاراً للإدارة العسكرية البريطانية في ليبيا، وجد الطريقة السنوسية ظاهرة نفوذ مجتمعي لايمكن تجاهلها كما في دراساته عن قبائل النوير في السودان. ويشهد الكتاب الذي نشره باسم السنوسية في سيرنيكا عام 1949على تضافر الأنتروبولوجيا مع التاريخ في فهم وتحليل انقسامية المجتمع القبلي التي توحدّها هيبة، أو بتعبير ماكس فيبر، كاريزما الولي، أو بالتعبير الليبي المرابط أو أمير الطريقة .

ظلت السنوسية تطوّر نفسها في نسق زعامي بدأه المهدي بـ: دعوة مُحاربة النفوذ الفرنسي لتأمين خطوط الإمداد التجاري الأفريقي، وأحمد الشريف جهادية تُغلب الولاء العقيدي العابر لحدود الوجاهة القبلية، فغالباً ما أعطيت قيادة دور الجهاد لمرابطي ليبي وحتى جهادي عربي مسلم وأفريقي. ومحمد إدريس تغليب السياسة بمعنى الجهاد الأكبر على الجهاد الأصغر المقاوم حتى الانتهاء والتلاشي .

سنوسية برقة خفّفت من العلاقات اللامتكافئة بين السعادي والمرابطين، ليس بالأخلاق والتعليم فقط، بل بتعميم ضريبة العشر في قبائل السعادي وتقديمها للنشاط الدعوي والجهادي. فإخواني سنوسي من قبيلة مرابطة هي "المنفّة" كالمجاهد عمر المختار كُلف بالمهمتين التعليم وتحصيل الضريبة، إضافةً إلى تنظيم الأدوار حسب الجدارة وليس النسب .

برجماطية الملك إدريس السنوسي، انحازت به إلى النخبة الكفؤة في إدارة الدولة، وأبعدته عن إيديولوجيا الطريقة السنوسية محل تنازعه الخفى مع أبناء عمومته السنوسيين، بينما ظلت التوازنات القبلية والجهوية مُحافظاً عليها في تسميات رئاسة الحكومة ووزرائها .
النفط وموارده وعدالة الحصول على التعليم المدرسي، دفع شباباً من الريف والبادية إلى إسقاط الملكية الليبية باسم إدريس السنوسي في انقلاب عسكري في 1 سبتمبر 1969، وأن يتولوا مقاليد الدولة الليبية كضباط جيش. فصار الحكم وإدارة الجمهورية الثورية في يد ضباط مجلس قيادة الثورة وتنظيم الضباط الوحدويين الأحرار. ليختفوا من الواجهة بعد إعلان ماسمي بسلطة الشعب 1977 ليطوّب قائد الانقلاب نفسه زعيما أوتوقراطياً ومفكراً صاحب نظرية عالمية. لكن هذا التوجّه لم يمنعه من التلاعب على وتر القبلية في الحصول على الدعم المجتمعي غرباً وشرقاً فقبيلة البراعصة التي دعمت عشيرة أو عائلة حدوث فيها الملكية السابقة، ساعدته المصاهرة مع بيت ضعيف من بيوتها على تعزيز الفروع المُضعفة لحساب البراعصة من قبيلة الحرابي السعادية التي ينتمي أول رئيس للمجلس الانتقالي لثورة 17 فبراير 2011 لفرع أولاد أحمد منها.

توفق المجلس الوطني الانتقالي نهاية عام 2012 في تسليم السلطة للمؤتمر الوطني المنتخب، فظهر فيه الإسلامويون مكوّناً حزبيا مُصطنعاً كغيره من المكونات، وأعضاءً تخفوا في أثواب المستقلين ليتبوأوا الصدارة في مقاعد العضوية، ويتغلغلوا في المشهد السياسي في شكل كُتل برلمانية يساعدهم عنف الانقسام المجتمعي في مدينة بنغازي، وإلى حدٍّ ما درنة، في دعم ميليشيات إسلامية متطرّفة، لتقابلها ميليشيات الـ vagabonds الملفقة من القبلي والاجتماعي تحت اسم قوات الكرامة، التي تُقاد من ضابطها السابق في الجيش، الذي يعود انتماؤه إلى قبيلة الفُرجان المرابطة باسم مرابطية الفاتحة أو البركة.

مجلس النواب المنتخب، في خريف 2014، ينقسم على نفسه، ويتوّسل الفوضى المسلحة، وسيطرة الميليشيات إسلامية ونهابة على العاصمة طرابلس، ليهرب ليس إلى بنغازي التي يسودها العنف ذاته، بل إلى طبرق في أقصى الشرق، فتعود رئاسة البرلمانية الهشة لتهيمن عليها قبيلة العبيدات من السعادي، بينما على الأرض تسيطر كتائب مُسمى جيش الكرامة وقائدها المنتمي لمرابطية الفرجان وأحلافهم الأكثر مرابطين والأقل سعادي.

البعثة الأممية باسم رئيستها الأمريكية في ليبيا، رجعت باستشارة من جلبوا بمعرفتها إلى ملتقى الحوار الوطني إلى التركيبة القبلية والجهوية، فتوفقت إلى أن تؤسس لقوائم سلطة جديدة تتجاوز الانقسام في المؤسسة البرلمانية وتوّحد الحكومة مؤسساتها وخدماتها المنشطرة بين شرق ليبي عن غربه،وتهيء البلاد لانتخابات برلمان ورئاسة محتملة في 24 ديسمبر 2021. فانحصرت المنافسة بين قائمتين واقعيتين. قائمة رئيس المجلس من قبيلة العبيدات السعادية مدعوما بنائب قبلي من عيلة سيف النصر ـ أولاد سليمان الزعماء التاريخيين لإقليم فزان، والحكومة لجهوية مصراتة ممثلة في وزير داخلية حكومة الوفاق المنفرطة. أما القائمة الثانية فانحصرت في رئاسة بقيادة مُرابطي من قبيلة المنفة، مدعوما من إثنية الطوارق القبلية في فزان. بينما الحكومة تبقى في جهوية مصراتة يمثلها رجل أعمال نفوذه المالي وموارده ترجع أصولها العائلية إلى النظام الدكتاتوري المُسقط عام 2011 .

خطة القوة الأمريكية ـ الأممية للخروج بالمأزق الليبي من النفوذ الروسي ـ التركي انبنت على ضعف الأجسام المعيقة. فمليشيات مسمى الكرامة بتلفيق الجيش انهزمت مع ميليشاتها في غرب ليبيا ومرتزقتها الروس والسودانيين بتدخل عسكري تركي سافر كسر شوكة ميليشات طرابلس إسلامية وحرابية ومشروعيتها المقاومة. مسمى حزب العدالة والبناء الأخواني وأحلافه المهيمنون على مجلس الدولة خرجوا من الانتخابات ومناصبها ليستظلوا بحائط المجلس المصطنع خوف التلاشي، ومجموعات المصالح والامتيازات البرلمانية التي تسترت وراء القبائلية والفيدرالية ودعم القوات المسلحة لسحق الإرهاب يهددها في حالة إعاقتها للخطة تولي جسم تشريعي بديل هو ملتقى الحوار الوطني الذي يرسم خطة الخروج على جغرافيا المجتمعيات الليبية التي صارت قوتها خارطة من ورق.