Atwasat

فبراير بلا ندم

صالح الحاراتي الأربعاء 17 فبراير 2021, 12:23 صباحا
صالح الحاراتي

بعد عقود «بل قرون» من الكبت والقهر والحرمان، وفي غياب رؤية فكرية ، وفي مناخ التصحر ما بعد حقب طويلة من الاستبداد..لا نستغرب خروج نماذج بشرية لا زالت تقدس وهم العادل المستبد، وتحاول أن تستأنس الاستبداد وتروج له تحت مسميات وشعارات كثيرة «احنا ما يمشي معانا إلا العصا»، ولا نستغرب وجود القابلية لذلك الترويج والاصطفاف معه والاحتماء به من الفراغ، ربما بحثًا عن الأمن والأمان. ولذا فمن الطبيعي في ذلك المناخ أن تكون النتيجة بروز وانتشار النزعات العرقية والقبلية والجهوية والمصالح الآنية وتسيدها على المشهد.. وفي كل مرحلة نجد أنفسنا في صراع غير مبرر بين جماعة لديها شهوة للسلطة وقلة من المعارضة ولكنها للأسف «تتوحم» على السلطة أيضاً!؛ وأظن الأمر في حقيقته حمل كاذب وهمي نظرًا لغياب رحم الدولة. المشهد المعاش ينطق بالكثير ومنه التدخل الإقليمي والدولي، ولم يأخذنا الحياء بعد ونحن نتحدث عن «السيادة الوطنية»، بل صرنا نفاضل بين تدخل عربي وتدخل أجنبي! المؤلم حقًا هو لا وجود حقيقياً لتوجه «مدني ديمقراطي» نظرًا لغياب التجربة وغياب الرؤية التي تمثل اتجاهاً فكرياً وأرضية يمكن البناء عليها.. ولذا يصعب تقييم المواقف، والمشهد يزدحم بالثنائيات.. الصواب والخطأ والحق والباطل والعسكر أم الإسلامنجية وهؤلاء سلفية أم إخوان... إلخ... كل ما هنالك في الواقع «كيبوردات» وميكروفونات للضجيج واصطفافات عاطفية ولمن يدفع، (جيوش إلكترونية وفضائيات)، منطلقاتها ليست إيمانًا بوجهة نظر معينة ولكنه الانحياز الأعمى للمصالح الآنية.

نعم لا يوجد لدينا تيار مدني حقيقي! ولكن المزاج العام الليبي يكره التأطير والنمذجة ويتوق للحرية وربما جاز القول إن مجتمعنا ليبرالي الهوى...وما لدينا من إسلامنجية يبدو حالهم كالدمى التي يحركونها من الخارج كمسرح العرائس، وذلك بحكم التراتبية التنظيمية والولاء لمرجعيات (خارجية) يدينون بالولاء والتبعية لها في خضم الصراع.. وبعد كل المأسي والجرائم والدمار... ظهرت في الأفق مفردات تتأرجح بين الشماتة في فبراير ومدح للنظام القديم على استحياء.. ومع ازدياد المشهد بؤساً وقتامة ودموية تحول اﻻستحياء إلى الندم «ما أبهاك يا مراة بوي الأولى» وعاد للظهور في المشهد ما تم تسميتهم بالأزلام والطحالب بعد كمون واختفاء!

مضت الأيام وتخلى الكثيرون عن مفردات كان لها رنينها ومغزاها مثل.. طحالب وأزﻻم... إلخ ، وتعالى صوت الدعوة إلى المصالحة والتسامح، وكان ذلك باعتقادي توجهًا صائبًا، فاﻷمر يتعلق بقناعات الإنسان سابقاً وحاضرًا.. ويقيني أن روح اﻻنتقام ﻻ تبني الدول، بل أظهرت الأيام أن الإمعان في الإقصاء أمر مجحف ومجافٍ لحق المواطنة عندما تتحقق العدالة اﻻنتقالية.. ولسنا مخولين بتوزيع صكوك الوطنية، فهناك من كان يؤدي عمله داخل منظومة الدولة بمهنية دون أن يرتكب ما يستحق المحاسبة واإقصاء. ولكن لا يفوتنا التأكيد على أن محاولة البعض العودة للظهور في المشهد السياسي بنفس مفردات النظام الديكتاتوري القديم ما هو إﻻ عبث وإفلاس وسذاجة سياسية.. فبالرغم من أن أوضاعنا اليوم مأساوية وربما أكثر إيلامًا، فالعدل يقتضي منا (بعد استتباب الدولة) أن تتم محاسبة كل من أجرم وولغ في دم أو مال عام قبل وبعد فبراير... وأن «المصالحة» المأمولة تبقى رهينة «الاعتذار» ثم «المحاسبة» ضمن عدالة انتقالية بعيدة عن التشفي واﻻنتقام.. كما أنها لا تعني عودة النظام السابق بسياساته وشخوصه.. فعقارب الساعة لا تمضي للوراء.. مع هكذا حال كان هناك السؤال المتكرر: هل هناك إمكانية للملمة الشتات؟ في تقديري نعم... ولكن ليس دفعة واحدة بل عندما نؤمن بسياسة إنجاز «الخطوة خطوة» التراكمي ونتخلى عن الحلم بـ«حمراء وجرايه وماتأكلش الشعير».. وعندما نتخلى «ولو موقتاً» عن مصالحنا الشخصية ونضع أولويتنا في إعادة توحيد الدولة ومؤسساتها ومحاربة التطرف.. عندما نعمل على البدء في خطوات عملية لإنهاء التشكيلات غير النظامية ودعم بناء الجيش والشرطة والأمن.. وعندما نبدأ في العمل على نشر ثقافة الديمقراطية بكل الوسائل المتاحة لتصبح مسألة تداول السلطة مسألة جوهرية راسخة في العقول ومركزية لاستتباب السلم الأهلي.. هكذا تقول التجربة الإنسانية.

المهم أن نبادر إلى البدء في طريق بناء الدولة حتى لا نفقد إنسانيتنا ونستمر في استباحة دمائنا بلا ضمير.. وفي اعتقادي سيبقى التغيير سنة الحياة.. وفبراير بلا ندم.