Atwasat

الصوت والمعركة.. أطياف الظل البعيد

سالم الكبتي الأربعاء 17 فبراير 2021, 12:21 صباحا
سالم الكبتي

غداة إعلان استقلال ليبيا في 24 ديسمبر 1951 كان الطلبة الليبيون في القاهرة يتواصلون مع وطنهم وأخباره. هذا التواصل تعزز وتطور بالنشاط الثقافي والفكري لهم تلك الأيام. كان أغلبهم يتعلم ويدرس بين جنبات الأزهر والجامعات المصرية ومدرسة حلوان. وكانت في كل الأحوال تجمعهم ليبيا رغم اختلاف الاتجاهات والبحث عن طرق ودروب تنهض بالوطن الحالم بالحرية وبالأفضل.

في بدايات 1952 انطلقت مجلة (صوت ليبيا) عن نادي طرابلس الغرب الثقافي الذي أضحى لاحقا نادي ليبيا الثقافي وظل مقره في العتبة قرب مقهى البرلمان الشهير في القاهرة التي كانت تضج بالحراك السياسي والحزبي والصحفي والمعارك الفكرية والأدبية بلا انقطاع. كان وراء تأسيس المجلة خلال تلك البدايات: فاضل المسعودي ومحمد عمر الطشاني زميلا الدراسة هناك وقاما بتحريرها مع غيرهم من الطلاب والناشطين الليبيين. وتابعا بكل جهدهما وحماسهما أمورها وشؤونها الفنية - إضافة إلى التحرير والأعداد- في مطابع القاهرة مع الخطاط المعروف ذي الأصل السوري محمد حسنى، والد نجاة الصغيرة وسعاد حسني، مع مخرجين آخرين. ظهرت المجلة في أعدادها المختلفة حافلة بالأغلفة الملونة واللوحات والمقالات والقصائد والردود والرسائل، وكل مايتصل بالوطن ونشاط النادي المتوهج بالمحاضرات والندوات والأمسيات واللقاءات ومناقشة الكثير من قضايا أوجبتها تلك المرحلة وماسبقها أيضا.

تولي إدارة النادي في القاهرة العديد من الشخصيات الليبية الدارسة في مصر وفي مقدمتهم الأستاذ محمد خليل القماطي رئيس المحكمة العليا والعضو بها أيام المملكة ثم مصطفى القويري الضابط في الجيش الليبي فيما بعد واختير فاضل المسعودي سكرتيرا عاما للنادي الذي التقى خلاله أعضاء آخرين في أنشطته المختلفة أيضا على مدى سنوات لاحقة من بينهم.. مصطفى التريكي ومحمد مختار جوان ومحمد الجالي هويسه ومحمد مصطفى المازق وأحمد طاهر الزاوى وعلي بوزقية وعلى وريث وعبد المولى دغمان وأحمد يوسف بورحيل وعبدالله النعمي ومحمد رمضان الوش ومنصور رشيد الكيخيا وعبدالحميد النيهوم ومفتاح امبارك الشريف وعامر الدغيس ومحمد بن يونس وعبد الحميد البكوش ورجب الماجري ومفتاح السيد الشريف، وغيرهم.

تنوعت مناشط النادي في أيامه ولياليه بين زيارات إلى محاضرات وندوات وأمسيات شعرية ودعوات لشخصيات ليبية وعربية، إضافة إلى دقة نظامه الإدارى والمالي الخاص. الملك إدريس تبرع للنادي بمبلغ مالي وكذا السفير الليبي في القاهرة إبراهيم أحمد الشريف ووجد كل ترحيب ودعم مادي ومعنوي من الكثير من الليبيين على مستوى الجالية الليبية في مصر أو مواطنيين يأتون لزيارتها.
كانت المجلة التي يصدرها النادي صوتا قويا لليبيا. لم تكن جهوية. أو مناطقية. أو تتعصب لقبيلة أو جماعة. كان موضوعها ليبيا. الطلبة كانوا يمتلكون وعيا وطنيا بمسألة بلادهم وأفادوا من تاريخها ونضالها وتراثها وزادت أيام القاهرة وآفاقها الرحيبة في تعدد الأفكار والإصدارات وأساتذة الجامعات الكبار وأقطاب السياسة والفكر قبل التغيير في يوليو 1952 ومابعده من الحصيلة المهمة لذلك الجيل الثقافي الليبي الموجود في مصر. كان الجيل مهيأً في الأصل بالانتماء للوطن. وعبر صفحات المجلة يلاحظ المتابع لتلك الفترة الكثير من المقالات والمناقشات والقصائد، وهي مرحلة مهمة في النضوج الثقافي والتفاعل الفكري للنخب الليبية الواعية في الخارج. إنها تظل تحتاج إلى نزع اللثام عنها والكشف عن مجهول تاريخها وماضيها وتسليط الدراسات والبحوث حولها تواصلا مع الحاضر الذي هو أيضا في حاجة إلى تحريك وتذكير على الدوام.

الخميس 27 مايو 1954 شهد صدور العدد الأول والوحيد من مجلة (المعركة) قام بتحريره فاضل المسعودي، وهو صاحب فكرته والمؤسس له مع زميله محمد الطشاني وفريد أشرف. المسعودي والطشاني ظلا لاحقا من الرموز الوطنية والصحفية بعد عودتهما للوطن والتقيا مرة ثالثة عبر انطلاق جريدة فزان في سبها عام 1957. تنوير يمتد إلى الجنوب ويعبر الآفاق من النيل إلى تلال الصحراء.

هذا العدد النادر والوحيد اتجه، بدءا من لوحة غلافه، بالنقد والرفض للمعاهدة البريطانية فيما عارض مسبقا التجهيز للاتفاقية الأمريكية التي كانت قيد التوقيع. المعركة التي يقودها ذلك الثلاثي في القاهرة كانت تهدف إلى الصدور إسبوعيا لكنها أوقفت بتدخل من السفارة الليبية فى القاهرة وبتنسيق مع الصاغ المصري صلاح سالم وزير الإرشاد القومي وبتعليمات من مباحث أمن الدولة المصرية وفقا لرواية مؤسسها. واحتوى العدد النادر في تاريخ الصحافة الليبية بالخارج افتتاحية لفاضل المسعودي عن ثورة يوليو ومقالة أخرى له عن الشاعر إبراهيم الأسطى عمر. ومقالات: الهازلون في وقت الجد لمفتاح السيد الشريف. فزان لمحمد عمر الطشاني. وصفحة للرياضة. شعراء سكتوا لعلي بوزقية. من وحي رمضان لرجب العربي بوسن واجب الصحافة.. لفريد أشرف. وبعض الإعلانات. ووقع في حوالي ثلاثين صفحة. سطور وصفحات حاولت تلمس الطرق الشائكة واعترضتها دروب مسدودة في منتصف تلك الطرق.

والمعركة توقفت ثم اشتعلت من جديد في ليبيا بإصدار المسعودي لصحيفة الميدان عام 1964 والحرية لمحمد الطشاني. كانت الحكومة تلك الأيام قد أعلنت وشرعت في إجراء المفاوضات المعروفة مع الجانبين البريطاني والأمريكي لتحقيق الجلاء من قواعدهما في ليبيا. تاريخ مجهول وغيره من تفاصيل عديدة في جوانب أخرى مازالت تختفي وراء خطوط الزمن وأطياف رؤى الظل الذي يحجب بكثافته أحيانا الضوء وخيوط الشمس البعيدة!!.