Atwasat

اتفاق جنيف لن يصل إلا إذا..

سالم العوكلي الثلاثاء 16 فبراير 2021, 10:50 صباحا
سالم العوكلي

لا أحد بكامل قواه العقلية والإنسانية، يعترض على أو يعارض فرص نهاية الحروب والحلول العسكرية والعنف بكل أنواعه، والجنوح إلى السلام، لكن لا أحد أيضا يتجاهل التوجس من طبيعة وتكنيكات السلام حيت يكون مفخخا بمحتوى غامض قد ينفجر في أي لحظة. بعد مؤتمر الطائف الذي سكّن الحرب الأهلية في لبنان، شاهدت حوارا مع الفنان زياد رحباني، أجاب فيه عن سؤال حول تصوره للمستقبل اللبناني، قائلا: «الحرب جاية. مسألة وقت بس» وحين رأى الذعر في عيون محاورته، شرح الأمر بما مفاده: كون كل أسباب الحرب وضِعت في إفريز اسمه اتفاق الطائف، لكن الألغام مدفونة تحت سطح هذا الاتفاق. 

حين آل النظام السابق إلى السقوط أثير السؤال المقلق: ماذا بعد القذافي؟ وحين انتظم الناخبون الليبيون في طوابير في يوليو 2012 واختاروا السلطات التي تمثلهم، اعتقدوا أنهم وصلوا بر الأمان، وابتعدوا عن العواصف، وسكت سؤال: وماذا بعد؟. غير أن الإجابة جاءت عن هذا السؤال المسكوت عنه عبر ما عانيناه كل هذه السنوات، ولم يكن كافيا أن نغمس أصابعنا في الحبر البنفسجي ونعود إلى بيوتنا في انتظار المعجزة.

وهذا النوع من القلق هو ما ختم به الكاتب جمعة بوكليب مقالته «اتفاق جنيف هل يصمد؟»، مستعيناً باقتباس للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماجو، من روايته البصيرة، يقول فيه: «اللحظات الرائعة، خاصة عندما تلامس الرفعة، عادة ما تعاني من عدو يسمى قصر المدة، على أن العدو الأكبر هو معرفة ما سيحدث بعدها». وبغض النظر عن قصر المدة المتاحة لبسط أرضية لبناء دولة من الصفر تقريبا، فإن ما بعد هذه المهمة حتى لو أوصلتنا إلى الانتخابات سيظل غامضا ومقلقا إلى حد كبير.

احتاج تأسيس الدولة الليبية الوطنية الأولى في التاريخ مدة عامين كانا المسافة الزمنية التي اقترحتها الجمعية العامة للأمم المتحدة كي يعلن بعدها استقلا ليبيا رسميا. في ذلك الوقت واجه المفوض وفريقه صعوبات جمة فيما يخص وسائل النقل وأدوات التواصل والاتصال والترجمة وحتى الأمكنة المناسبة لإقامة الفريق، غير أن الجهد الذي قام به رجل مخلص لأمانة مهمته ممثلا لمنظمة مازالت في فترة براءة طفولتها آتى نتائجه كما خطط لها تقريبا وقبل الموعد المحدد، لكن المفوض طيلة عمله في التأسيس كان مشغولا بسؤاله القلق حول «العدو الأكبر» وهو معرفة ما سيحدث بعد؟. فكان يشرح لمن يقابلهم، وللجان المشكلة وقادة المرحلة، إن إعلان الاستقلال لا يعني أن البلد استقلت، ولن يصبح حقيقية إلا حين يعترف المجتمع الدولي بالدولة الجديدة ويقبل عضويتها في هذا المجتمع، وهذا لن يتأتى إلا بمعرفته الوضع الدستوري لهذه الدولة الذي يضمن وحدتها وحقوق جميع مكوناتها الثقافية والدينية والعرقية وحقوق الإنسان ويحدد مسارها الديمقراطي، محذرا من الركون إلى أن «الاستنتاج بأن استقلال ليبيا وسلامة أراضيها لن تتعرض أبداً للخطر في المستقبل»، ويحدد المؤلف مصدرين لهذا الخطر يتمثلان في (1) نزاعات سياسية واجتماعية محلية تؤثر سلبا على وحدة البلاد، وتشجع التدخل الأجنبي. أو (2) نتيجة لتحول رئيس في توازن القوى السياسية والاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط.

في مقالته تحدث الكاتب جمعة بوكليب عن مآسي الحرب الأهلية وعبثيتها «ليس معروفاً عن الحروب عموماً أنها تقود في النهاية إلى تحقيق وئام وسلام. والحروب الأهلية، على وجه الخصوص، غير معروف عنها سوى سوء السمعة، لما تحدثه من تصدعات وتمزقات في الأنسجة الاجتماعية في البلدان التي تندلع بنيرانها فيها». وهذا كلام حقيقي في العموم، لكن حين ننزل به إلى ما حدث في ليبيا سيطرح أسئلة حول طبيعة هذه الحروب المعقدة. فمن جانب نستطيع، وفق هذا التوصيف، الإقرار أن الحرب الأهلية بدأت منذ الأيام الأولى لحراك فبراير حيث انقسم الليبيون فعلا بين مؤيد للحراك ومؤيد للنظام، وهذا الانقسام كان على طول الأرض الليبية وعرضها، في الشرق والغرب والجنوب، ولو توقفت تلك الحرب لأفضت إلى حل وسط يوازن بين استمرار النظام وبين مطالب المنتفضين، والنتيجة هو ما حصل في اليمن حين أجهِضت الثورة في منتصفها وآل الأمر إلى ما آل إليه من حرب أهلية فعلية. 

بعد سقوط النظام السابق في ليبيا، سكتت الجبهات والمحاور لفترة، غير أن تكديس الأسلحة لم يتوقف، والتدخلات الخارجية كانت على أشدها، والقنوات التي فتُحت مع الحراك استمرت طيلة ساعات بثها تعيد مشاهد الحرب والرصاص، خصوصا القنوات التابعة لجماعة الإخوان وحلفائهم الإقليميين، وكان هذا الهدوء المفخخ في انتظار نتائج أول انتخابات، وحين خسر هذا التيار النتائج توجه للبديل وهو التحكم في هذا الجسم الجديد عبر الميليشيات المسلحة خارج القبة، وعبر كتلة الوفاء لدم الشهداء تحت القبة التي رسمت خارطة العدو الأكبر (ما بعد) مستخدمين لعبة المسار الديمقراطي نفسها في سياسة التمكين والإقصاء وعزل الكفاءات، بل وفي اجتياح مدينة لمدينة ليبية أخرى بقرار رسمي لتصفية حساب عمره أكثر من قرن، وحين أراجع القوانين والقرارات التي صدرت فترة المؤتمر الوطني المنتخب أرى بوضوح البنية التحتية التي كانت تُرسى من أجل خيارين لا ثالث لهما: إما تمكين الإخوان أو تحالف الإسلام السياسي من كل مفاصل الدولة، وإما الانقلاب المسلح عبر أذرعها المسلحة التي كانت تشكلها: قوة درع ليبيا من المدنيين المسلحين بديلا للقوات المسلحة، واللجنة الأمنية المشكلة من مدنيين بديلا لمؤسسة الأمن الرسمية.

 الميليشيات تكتيك يناسب طبيعة (النظام الخاص) في هيكلية تنظيم الإخوان المسلمين، وهذا ما جعلها تنتشر في كل مدن ليبيا فترة المؤتمر الوطني وحكومة الكيب التي كان بها خمسة وكلاء وزارات سيادية عائدون من الحروب الجهادية في أفغانستان، وبدأت ملحمة اغتيال العسكريين والأمنيين والقضاة والنشطاء السياسيين والمدنيين .. إلخ.، وفي هذا السيل من الدماء وقطع الرؤوس، وتحت شعار «لإيقاف شخص سيئ يحمل سلاحا أنت في حاجة لشخص جيد يحمل سلاحا» لم يكن ثمة بديل إلا الحرب، وفي تلك الفترة لم يكن ثمة ما هو أسوأ من إرهابيين تكفيريين يحملون سلاحا، وللأسف مازالوا هناك يحملون السلاح ويبعثون رسائل تهديداتهم إلينا، وبعضهم دخل عالم الأعمال وأصبح مليونيرا. وأي حديث عن تبعيتهم للمجلس الرئاسي أو وزارة الداخلية أو رئاسة الأركان محض وهم وهراء. 

أي عاقل سيطلب أن نطوي صفحة ما حدث طالما انفتح باب أمل آخر في اتفاق جنيف ومخرجاته، حسنا هذا كلام جميل. لكن للأسف مازال هذا الوضع قائما ولم يتحول إلى ماض، ومازال (ما بعد) هو العدو الأكبر، فالبنية التحتية للأزمة والحروب التي شُيدت في المؤتمر الوطني وحكوماته مازالت عناصرها موجودة، ويمكن أن تُرحّل إلى المجلس الرئاسي الجديد مثلما ورثها المجلس الرئاسي السابق وعمل تحت ضغطها وبشروطها.

كل حديث عن المستقبل سيكون غامضا طالما الميليشيات موجودة على الأرض، وطالما هذا التيار الديني يحاول أن يتغلغل في المؤسسات القادمة ويلعب لعبته السياسية التي إن خسرها فالبديل مازال موجودا وازداد قوة بدعمه بمقاتلين وأسلحة متطورة أرسلها تنظيم الإخوان المسلمين الحاكم في تركيا. وإذا فقدوا الانتخابات من جديد فإن الحرب قادمة، أو جاية كما قال زياد. لذلك أقول بكل أسف، وفق هذا المسار المشابه، اتفاق جنيف لن يصمد؟ وحتى إن صمد مثل اتفاق الصخيرات فلن يصل. لن يصل دون تفكيك الميليشيات (التي قد تتحول إلى أذرع عسكرية لأحزاب تخوض الانتخابات) ودون نزع السلاح واحتكاره في يد المؤسسات العسكرية والأمنية النظامية الموحدة، وسيكون المصير شبيها بمن قرروا في وقت ما التعامل مع الأمر الواقع واحتواء جماعات مسلحة وشرعنتها وإدماجها في الحل، مثلما حصل في لبنان والعراق واليمن. 

أما معركة المثقفين والمثقفات (النائم في العسل معظمهم) فيجب أن تكون مع هذا التيار؛ الذي لا يشكل خطرا على الدولة المدنية ومسارها فقط ولكن على الحياة نفسها، وما نشهده في تونس الآن معركة ضارية لم تتوقف بين النخب الوطنية المثقفة وظلامية الإسلام السياسي، رغم أن تونس لم تشهد حربا أهلية، ونسختها من الإسلام السياسي هي الأفضل كما يقول المتفائلون.