Atwasat

اللفظ الخشن والمعني الجميل

محمد عقيلة العمامي الإثنين 15 فبراير 2021, 12:25 مساء
محمد عقيلة العمامي

ما إن تتعلم الأنثى المشي والحكي، حتى تأسر والديها، متميزة برقة وحنان، هو بالتأكيد في جينياتها. تصبح قرة عين والدها، وأميرته المدللة، وتسعى بالسبل كلها إلى أن تتميز على إخوتها الذكور، تكون الأكثر اهتماما بدروسها، لأنها أقرب وسائل نيلها تلك المكانة التي تميزها في الأسرة. يستمر الاهتمام بها بالحظوة الكبيرة لدى والدها، أحيانا أكثر من أمها، إلى أن تبتديء ورود أنوثتها تتبرعم، وعندما تزهر يتغير، في الغالب، كل شيء! تنزوي في أحلامها، بسبب كثرة انتقادات وتلميحات أخوتها الذكور، ويبتدئون مع أبيهم حصارا، يرونه من أجل مصلحتها، فعالم الذكور خارج بيتهم، هو مجرد مقصلة ستطير بشرفها وسمعتها، وبقية الكلمات المرعبة وصولا إلى رقبتها! وتتقمص ذكور عائلتها- من دون أن ينتبهوا- شخصية يوسف بك وهبي، بصوته وطريقة إلقائه الجهورية: "شرف البنت (زي) عود الكبريت!". وتصبح تلك الطفلة الوديعة الجميلة مجرد دمية تتحرك بين حجرات البيت مطأطئة الرأس، في محاولة لضم نهديها من خلال انحناءة بسبب ثقل رأسها على رقبتها من كثرة ما وضعوا فيه من ألغام، فمفاتنها مجرد إعلان عار!

وددت أن أكتب عن حال المرأة في بلادي، وأين هي مما يحدث في تونس، هذه الأيام، وما يحدث في مصر منذ أن اهتم المفكر قاسم أمين بحالها، ليتولى من بعده جيل كامل هذه المهمة، لم أجد الكثير سوى قانون لم يطبق تماما، يمنع الزواج بأخرى، إلا بعد موافقة الزوجة! ولكن ذلك لم يطبق أبدا!

وعندما أردت أن أعرف منذ متى اهتم الذكور بأمرها، وجدت أن الأبرز والأخطر في قانون مجلة الأحوال الشخصية، بالغ الجرأة، الذي أقر به الرئيس الحبيب بورقيبة العديد من التشريعات التي تعد ثورة حقيقية في عالم المرأة الشرقية، منعت تلك "الأحوال" تعدُّد الزوجات، ورفعت سن زواج الإناث إلى 17 سنة، ومنع ولى أمرها من إكراهها على الزواج، وقانون يسمح للمواطن بالتبني، وأقر بورقيبة قانوناً يسمح للمرأة بالإجهاض، ومنع الزواج العرفي وفرض الصيغة الرسمية للزواج وتجريم المخالف، وفوق ذلك إقراره المساواة الكاملة بين الزّوجين في كل ما يتعلق بأسباب الطلاق وإجراءاته وآثاره، وأن يتم من خلال القضاء. وفي عام 1959 حصلت المرأة التونسية على حق العمل السياسي تصويتا وترشيحا. فكانت تلك بالفعل خطوة غير مسبوقة.

وتذكرت أنني سبق وأن دونت عبارة تقول: "خير الكلام ما كان لفظه فحلا ومعناه بكرا". ولما عدت إليها كانت في مقالة للكاتب أحمد صالح هلال، في موقع (الراي)، نسبها إلى عبد الحميد بن يحيى الكاتب، يتساءل من خلالها: هل قوامة الرجل للمرأة يمكن أن تمتد إلى الثقافة لتكون المرأة ما هي إلا وعاء حاملا للفحولة؟ وهي التي قادتني إلى كتاب، عنوانه "المرأة واللغة" الذي ظل في مكتبتي منذ سنوات، للكاتب الكبير الدكتور عبد الله محمد الغدَامي، أستاذ النقد بجامعة الملك سعود بالرياض، فانتهيت من قراءته بصدمة حقيقية، أقلها كيف أنني احتفظت بهذا الكتاب، طوال خمسة عشر سنة من دون أن أتصفحه، والأدهى من ذلك أنني لم أنتبه مطلقا لهذه الجريمة الإنسانية التي قام بها الإنسان، أينما كان تجاه نصفه الآخر، إذ جعل منها كيانا لا استقلالية له بل هو تابع لإنسان آخر، وهذه التبعية لم يتفرد بها الإنسان العربي فقط، فالإنجليزي على سبيل المثال، لم يلحق المرأة به فقط، بل ألحق بنفسه البشرية كلها: فكلمة "Man " التي تعني ببساطة رجلا ألحق بها المرأة: "Wo -man " وألحق البشرية "Hu-man" و "Man-kind.

ومن مقدمة الكتاب يقرر الدكتور الغدَامي أن الرجل اختار أخطر ما في اللغة، وهو اللفظ وترك للمرأة المعنى، وهكذا سيطر على الفكر اللغوي والثقافة على مر التاريخ، فليس للمعني من وجود من دون اللفظ! ظل القلم مذكرا، أداة ذكورية! وأنثاه المحبرة!
ويذهب كتاب "المرأة واللغة" ليبرز أن "الرجل عقل، والمرأة جسد" وهذا وللأسف، ما تؤكده، أيضا، كتابات الفحول مثل "سقراط" و "أفلاطون" و "داروين"، و "شوبنهور" و "نتشه" و "المعري" و "العقاد"، أما "فرويد" فيجعلها ناقصة، لأنها لا تملك أداة الذكورة، ويجعلها مليكة الخطايا، كما يقول الشاعر بولدير: "أيتها المرأة، يا مليكة الخطايا، أيتها العظمة الدنيئة، أيها الجُزيء الرفيع".
وتعترف الكاتبة مي زيادة أن الدين، بوصفه وحيا، يعطي المرأة حقها، ولكن الثقافة بوصفها ابتكارا إنسانيا تحيلها إلى كائن مُستلب. وتبرز كيف أن الرجال يبتكرون صورا سيئة عن النساء وشرورهن، بتربصهن بالرجال" وتقول في نهاية مقالتها: "أيها الرجل الذي أذللتني، فكنت ذليلا. حررني لتكون حرا".

"والمؤسف أن الفلسفة، ولدت في مجتمع ذكوري، متعال عن الأنثى، لدرجة أن أفلاطون، كان يتأسف أنه ابن امرأة، وظل يزدري أمه لأنها أنثى".

ولعل تقسيم الرجل للغة ما بين الكتابة والحكي، هو وصفها، بأنها مجرد لسان، فالسويديون يقولون: "سيف المرأة في فمها" والإنجليز يقولون: "لسان المرأة آخر عضو يموت فيها" والأمثلة مثلما يقال باتساع العالم كله، ولكن أسوأ ما يقال مثلما نقول نحن، بأنها مجرد "لسان وأقل إحسان" وهذا ما أرفضه شخصيا. ففي تقديري أن المرأة مرآة الرجل! فما تضعه، أو قل ترتديه او تتصرف وفقه، يعكس قيم الرجل ومفهومه وقناعته، فإن أمسك نفسه عن حرمانها من إنسانيتها يكون هو إنسان وإن جعلها "حاوية " لأفكاره وقناعته وأفعاله يعكس بالضرورة فحواه.
هناك الكثير مما يتعين بحثه، ومعرفته، وكتاب الدكتور عبدالله محمد الغدَامي، أو "أبو غادة"، مثلما يُفضّل أن ينادى به، جاء في 245 صفحة بمراجعه البالغة 97 مرجعا عربيا وإنجليزيا، يجعل اختصاره في مقالة قصيرة أمرا مستحيلا. إنه جدير بقراءته وبمراجعته، فلعلنا نصحح، أو نكون نواة لتصحيح هذا الخطأ الإنساني الفادح.ِ