Atwasat

حضور الهوية الوطنية الليبية قبيل الاستقلال

صالح أبو الخير الإثنين 15 فبراير 2021, 12:21 مساء
صالح أبو الخير

تنساب صيرورة صنع التاريخ دون وعي من التاريخ بها
جان بول سارتر
هناك خطان لتشكيل الهوية: إما على النموذج الأمريكي حيث تتشكل الهوية بتأثير المؤسسات الدستورية والديمقراطية، وإما على النموذج الأوروبي الذي تتشكل الهوية في مجتمعاته بإقامة مجتمع يرتبط أفراده بتاريخ وثقافة مشتركين، وبناء على هذا فليبيا كانت دولة محظوظة: حيث ارتبط سكانها بتاريخ وثقافة مشتركين، ولغة واحدة ومذهب ديني يكاد يكون واحدا، وبالإضافة إلى رقعة جغرافية تاريخية شهدت امتدادات ديموغرافية راسخة، فرغم غياب الدولة القطرية بمفهومها الحديث المعروف في أيامنا هذه، وحضور واضح للتقسيم الإقليمي جغرافيا واجتماعيا، إلا أن النظر إلى هذا الفضاء كونه فضاءً واحداً، كانت فكرة حاضرة، وهذا كان أهم روافد حضور الهوية الوطنية الليبية التي نعنيها في هذه المقالة.

من اللحظات الحاسمة في تاريخ ليبيا التي أهملها كتاب التاريخ والباحثون في حركة المجتمع الليبي هي: توافق الليبيين حول رفض الاحتلال والتدخل الأجنبي، وسعيهم الحثيث بكل الوسائل لإنهائه والحصول على الاستقلال وتكوين الدولة ـ الأمة، لقد كان هذا النسق الهوياتي مستعينا بحالة مثالية من الولاء الوطني، يستقي فاعليته من مقومات عدة: التاريخ المشترك ووحدة اللغة والدين والجغرافيا، بحيث كان موقفا واضحا وجليا لا تخطئه العين، توحد فيه كل الليبيون رغم التباينات وشقات الخلاف بينهم. وبلا شك فإن توضيح هذه اللحظة والتركيز عليها يتطلب منهجا مغايرا، غير ذلك المنهج الذي اهتم فقط بالتركيز على الخلافات بين الليبيين، أو بمراكمة التفاصيل والمعلومات التي تشل الرؤية لهذا النسق من سياقات أكثر شمولا.

لقد شكلت السنوات القليلة التي سبقت الاستقلال، لحظة وعي جديرة بالتوقف عندها، عندما ترفّع الليبيون عن خلافاتهم وحددوا هدفهم (الدولة ـ الأمة) والتفوا حول قيادة رأوا فيها الإخلاص والنضال (إدريس السنوسي) وهذه الحالة هي التي أنهت الكثير من الخلافات والتجاذبات بين الزعماء الليبيين، وساهم أيضا في توسع انتشار وتأثير شخصيات تبنت هذا الموقف الهوياتي، وانحسار وتراجع مكانة وتأثير شخصيات وجماعات أخرى، لم تتفاعل مع هذا النسق الشعبي الواضح، فرغم حالة الاختلاف الكبيرة بين المشاريع السياسية للجماعات الليبية إلا أن التاريخ قد أثبت أن هذا الموقف الهوياتي كان حاسما في أن يستوعب كل التناقضات والتنوعات التي كانت حاضرة في المشهد الليبي سياسيا واجتماعيا، وأن يتوحد الليبيون وراء قيادةٍ واحدة ونحو هدفٍ واحد: هو النضال من أجل الاستقلال، على الرغم من أن الهوية الليبية ـ في ذلك الوقت ـ كانت مضطربة وتعاني من معضلات عدة، حيث كانت تتنافس فيها العديد من التعريفات الوطنية والإثنية والإقليمية والقومية.
وبحكم أن مفهوم الهوية (قومية كانت أم وطينة) كان مصطلحا يشير إلى معارضة الاستعمار الأوروبي ويشير ضمنا إلى ولاءات مختلفة مثل الأمة الإسلامية والعالم العربي أو الدولة القطرية، فإن ذلك كان من مقومات حضور النسق الهوياتي الرافض للاحتلال والتدخل الأجنبي والمتطلع للحرية والاستقلال، وشكل نوعا من الحماية للوطن والدين.
لقد كان للإرث التاريخي، أو ما يمكننا ان نسميه التجربة النضالية الليبية، دور مهم في إنتاج هذا النسق الهوياتي. فلحظة الاستقلال كانت لحظة تراكمت فيها الخبرة السياسية والتجربة النضالية المريرة للليبيين، حين استوعبت القيادات السياسية بمختلف توجهاتها التجارب السابقة: تجربة الجمهورية الطرابلسية ومن بعدها تجربة إمارة برقة 1917 وما لحقهما من أحداث تسببت في تشتت الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار الإيطالي وما آلت إليه من نتائج وخيمة، هذه التجارب وضعت الليبيين أمام حقيقة أن العمل السياسي المشتت لم يفض إلى نتيجة، سوى المزيد من الشقاق والتشرذم، وإن اللحظة التاريخية تتطلب تنظيم الصفوف وتوحيد المشاريع نحو هدف وحيد: هو الاستقلال وبناء الأمة.
كان للحوادث الكبيرة التي عاشتها البلاد خلال القرن العشرين مساهمة كبيرة في ارتباط أغلب حركة المجتمع والسياسات بالعامل الديني، فصعود السيد إدريس السنوسي وقيادته لمسيرة الاستقلال كانت تتكيء على قاعدة دينية في المقام الأول، لأنه كان زعيما دينيا قبل أن يكون سياسيا، فهو زعيم الدعوة السنوسية ـ الحركة الأكثر انتشارا وتأثيرا في كل ليبيا، وهذا ساهم بشكل كبير في قبوله لدى الليبيين، ولم يقتصر الدور الديني في إنتاج زعامة إدريس السنوسي فقط، بل كان فاعلاً في ارتقاء زعامات سياسية ذات مرجعية دينية في طرابلس وفزان، ومثال ذلك: عندما تشكلت الجبهة الوطنية المتحدة، وهي الجبهة التي شكلها زعماء طرابلس لمواجهة مشروع بيفن سفورزا وخطر التقسيم وتأخير الاستقلال، اختير لقيادتها مفتي طرابلس الشيخ محمد أبوالأسعاد العالم، لمَ كان له من تأثير وقبول كبيرين في مدينة طرابلس وجوارها.

يضاف إلى ذلك: أنه لم يكن هناك زخم كبير للتأثير الأوروبي المباشر على الليبيين، لأن طبيعة الإنسان الليبي طبيعة تقليدية محافظة على ذاتها وخصوصياتها أمام أي ثقافة وافدة. فمثلا رفع الإيطاليون مبدأ تحضير الليبيين، وهو يعني تمدينهم وتطوير أسلوب معيشتهم. ظل هذا المبدأ عند أغلب الليبيين مرادفا لمفهوم: الطلينة، وواجهة سياسيات الإيطاليين هذه مقاومة كبيرة، وكذلك الحال مع السياسة المتعلقة بالجنسية الإيطالية وسياسة التعليم، وهما أكثر أنماط السياسة التي واجهها الليبيون بكل عنفوان وقوة، نظرا لأنهما يتعلقان بتقويض منظومة الذات التي حافظ الليبيون عليها منذ آلاف السنين، وحتى القلة القليلة التي انخرطت في المنظومة الاستعمارية واستفادت من خدماتها، كانت حذرة ومتخوفة ومتعلقة بتقاليدها وخصوصيتها.
من الجدير بالإشارة: إن من مظاهر هذا النسق الهوياتي أن الساسة الليبيين والمثقفين والمحاربين القدماء قد بدأوا قبول اسم ليبيا الذي كان مرفوضا في فترات سابقة، وصار يستخدم بتوسع ودون وجل في أدبيات العمل الوطني في كل المناطق الليبية. صحيح أن ذكر الأقاليم يرد باستمرار، لكن عندما يتم الحديث عن الهدف الأبعد كان يتم الحديث عن ليبيا، ولعل هذا يعد مؤشرا على أنهم يعلمون أنهم أمام تأطير واقع هوياتي أوسع من الأطر السابقة التي حددتها الأقاليم التاريخية.

ساهم أيضا في بناء هذا النسق: المثقفون المهاجرون الذين عاشوا في المنفى وتشربوا القيم الدينية وبذلوا عمرا طويلا في النضال السياسي، أمثال عمر شنيب وبشير السعداوي وجماعة جمعية عمر المختار، وغيرهم حين لعبوا دورا كبيرا في تعزيز الأفكار الوطنية واستفادوا كثيرا من الصحوة التحررية التي كانت تنشط في بلاد الشام ومصر والأفكار التحررية التي كانت تنتشر بعد الحرب العالمية الثانية وما صاحبها من تطور للهويات الإقليمية.
هذا الموقف لم يقتصر على الشخصيات المناضلة العائدة من المهجر، بل كان واضحا حتى لدى من تعاملوا مع الاستعمار الإيطالي. والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد اتخذ الكثير منهم موقفا قويا مع الاستقلال والتحرر، رغم ما كان يتهددهم من خطر بسبب تاريخهم السياسي والمهني. إلا أن الكثير منهم التحقوا بالعمل الوطني، واستطاعوا بما كانوا يملكونه من خبرة مهنية وتأثير اجتماعي من تقديم خدمات كبيرة في مسيرة الاستقلال. كان هذا الموقف واضحا لدى شخصيات طرابلسية مهمة أمثال سالم المنتصر رئيس حزب الاستقلال، ويذكر لمدير منطقة البيضاء في عهد الإدارة البريطانية حسين طاهر موقف يعبر بجلاء عن الروح الوطنية المتأهبة للبذل والعطاء لأجل الوطن: فقد كان الرجل أحد موظفي الحقبة الإيطالية المهمين، ولكنه لم يكن بعيدا عن حلقات العمل الوطني، وخلال فترة النضال من أجل الاستقلال كان طاهر يشغل منصب مدير منطقة البيضاء في الإدارة العسكرية البريطانية، وكان الأمير إدريس في زيارة إلى برقة في عام 1946، وانعقد في الوقت نفسه مؤتمرا لوزراء خارجية الدول الأربع لبحث مصير المستعمرات الإيطالية وتقرر خلاله تأجيل البت في قضية ليبيا، فعاد الأمير إلى مصر لبحث الموقف مع السلطات البريطانية. وهنا بادر حسين طاهر بالدعوة لعقد اجتماع لشيوخ قبائل السعادي والمرابطين في بيته في البيضاء، وقام هو نفسه بتحرير الدعوات وأرسلت باسم مشايخ الحرابي (بوشديق مازق ـ بكار بوعقيلة ـ ابوبكر بالذان) وبحكم أنه كان موظفا في الإدارة العسكرية فوجود اسمه يعرضه للمساءلة والعقاب، ولكن الاجتماع عقد في بيته في البيضاء وتمخض عن بيان مهم وشديد اللهجة تم توجيهه إلى سلطات الإدارة العسكرية البريطانية في برقة في 26 يوليو 1946 وطالبها بالاعتراف بالاستقلال فورا وتسليم الإدارة للسلطة وطنية.

لعبت الصحافة دورا مهما في تدعيم هذا النسق، فرغم انعدام المواصلات بين الأقاليم الليبية، وصعوبة التواصل بين أبناء الشعب، قامت الصحافة الوطنية بدور كبير في طرح الأفكار ومناقشة المشاريع المختلفة، وكان لذلك دور كبير في فهم الليبيين لبعضهم البعض، وتجسير شقة الخلاف بينهم، والحقيقة أن مهمة الصحافة الوطنية في تلك الأيام كانت مهمة صعبة للغاية، في ظل تفشي الجهل والأمية بين طبقات الشعب، وصعوبة الوصول إلى كل المناطق الليبية، وجدت هذه الصحافة نفسها في مواجهة مؤسسات صحفية عريقة لها مشاريعها السياسية التي تتعارض مع المشروع الوطني، فالصحافة المصرية التي كانت تؤثر بشكل كبير في الأوساط العربية آنذاك وتصل مطبوعاتها بانتظام إلى المناظق الليبية، كانت تتبنى موقفا يتعارض مع الكثير من القيادات والجماعات السياسية الليبية، لأن مصر كان لها موقف من قضية ليبيا يتعلق بالمطالبة ببعض المناطق الليبية مثل واحة الجغبوب ومرسى البردي، وطالبت في بعض الفترات بإسناد الوصاية على ليبيا لها.

الصحافة الإيطالية لعبت دورا آخر لخدمة سياسة إيطاليا ومطامعها في ليبيا، فبالإضافة إلى الصحف الإيطالية، كان يوجد في ليبيا جالية إيطالية كبيرة بلغت أكثر من 45 ألف مستوطن، وهي جالية كانت تتحكم في الاقتصاد في إقليم طرابلس، وكان لها العديد من الصحف التي تصدر في طرابلس باللغتين الإيطالية والعربية، ومعروف أن هذه الجالية كانت تطالب بعودة طرابلس إلى الحكم الإيطالي، وحاولت هذه الجالية استغلال الخلافات بين الجماعات السياسية في إقليم طرابلس واستمالة البعض منهم لصالح مشروعها. لكن جهودها ذهبت أدراج الرياح، فرغم كل هذه الخلافات بين الليبيين، لم يكن بينهم من يقبل بالعودة إلى الاستعمار من جديد، بل كان الجميع يؤمن بالعمل من أجل الاستقلال وبناء (الدولة ـ الامة).

في برقة لعبت صحيفة الوطن التي كانت لسان حالة جمعية عمر المختار، دورا مهما في بناء الوعي الوطني وإن كان تأثيرها كان محدودا في الحواضر المدنية، حيث دأب كتاب الصحيفة على انتقاد إجراءات الإدارة البريطانية مثل المماطلة في إجراءات الاستقلال والتلكؤ في الاعتراف بالإمارة السنوسية والوحدة الوطنية حتى أوقفتها السلطات البريطانية في سبتمبر 1946 بحجة أنها تثير الرأي العام.

وبعد: فإن هذه اللحظة التاريخية المثيرة في تاريخ ليبيا، عندما صعدت أهمية الهوية الوطنية وطغت على كل المشاريع الداخلية والخارجية، وكانت مشتركا التقت فيه كل التوجهات والأفكار نحو بناء (الدولة ـ الأمة) استطاع من خلاله الليبيون أن يحققوا ذاتهم وينتزعوا استقلالهم، في دولة وصفها تقرير الأمم المتحدة بأنها مجرد صندوق من الرمال بنيت أضلاعه على الجهل والمرض والموت، ولكن... هل استمرت هذه الهوية الصاعدة على نفس الوتيرة؟