Atwasat

العزل المُضاف

نورالدين خليفة النمر الأحد 14 فبراير 2021, 11:52 صباحا
نورالدين خليفة النمر

أعجبني في تآليف البير كامو لا معقوله العبثي: محور ما يمكن تسميته بفلسفة إنسانه الأول. العنوان الذي اقترحته ابنة كامو للرواية غير المكتملة عن سيرته طفلاً وفتىً لأبوين فلاحين فقيرين في الجزائر. والتي وُجدت أوراقها في حقيبته، لاقياً حتفه في حادث سيارة نجا منه سائقها صديقه الناشر جاليمار، ليموت كامو، بما يُذكر بالمصير الذي تنبأ به عنوان روايته "الموت السعيد"، الذي أتى هذا العام تذكاره الستون في 4 يناير 1960 ليموت في عمره الـ 47 خاتماً حياته المليئة مُفكرّاً بالوعود.

جيلنا الثقافي كان على موعدٍ مع فكر كامو، فقد عايشنا وجودياً سلبية كتابه "الغريب" في سبعينيات القرن الـ 20 الليبية التي كان حاكمها في السُلطة وريث "كاليغولا". وهي واحدة من دراماته، التي أخرجها المسرحي الليبي محمد القمودي، الذي كان وقتها يجالسنا في مقهى "الأورورا" بطرابلس فشارك بها في المهرجان المسرحي الوطني الأول سنة 1971، ومثل الفنان محمد الطاهر دور القيصر الروماني المجنون، كما قدّمت فرقة المسرح الحر على الخشبة مسرحيته "العادلون".

من مظهريات الهوس بالقراءة،ا لحكاية التي أوردتها كتب تاريخ الأدب عن الأمير الأسباني الذي رأى من نافذة قصره شخصاً يقرأ كتاباً وهو يتمشى ويضحك، فتيقّن أنه يقرأ رواية سرفانتس"دون كيخوتة". اليقين نفسه خامرني إزاء الشاب الألماني الذي يقابلني عادة بكلبه، بضاحية باد قودسبرغ ـ بون. هذه المرة يقرأ الجريدة ويتمشى ناشرها في ضيق الرصيف، انتظرته على الحاشية متضامناً مع انشغاله بأهمية المقال الذي يقرأه على غير عادته ماشياً. فاعتذر مبتسماً. فشاركته بمشاعري المفترضة لتشويق الموضوع، وكنت على يقين أن فحوى مقال الجريدة متعلّق بتطورات وباء كورونا والإجراءات الحكومية إزاءه.

نرجع بالذاكرة إلى كتاب "أسطورة سيزيف" لـ : كامو في التكهن بمقالة فحواها الانشغال بالوباء، تنعكس حيرة وقلقاً. حيث يحيط الناس أنفسهم بالتصرفات اللابشرية فيسبغون مظهرٍاً ميكانيكياً على تصرّفاتهم، بحيث تُضفي حركاتهم الخرساء على كل شئ يحيط بهم العبثية واللآمعنى، ضارباً مثلاً بشخص يتحدث في صندوق الهاتف يفصلة حاجز زجاجي، عن الشخص الذي يقف خارجه فلايستطيع أن يسمعه، ولكنه يرى منظره المتحرك والمتكلم الصامت غير المفهوم فيتساءل: كيف هو حيّ؟.

لاشك أن تساؤلات مقاربة خامرتنا ونحن مضطرون للتعاطى مع الإجراءات والوسائل الحكومية المتبعة للتوقّي من الوباء كـ: الإقفال العام، والعزل، وتحديد المخالطة والاجتماع البشري في المكان، والعمل من البيت، واستعمال الكمامات، وغسل الأيدي بالمطهرات، ولبس القفازات، والتعامل في الأماكن العامة مع العاملين بها عبر ألواح الزجاج أو البلاستيك، والسداد المُفضل بالبطاقات المصرفية.

في شهر أكتوبر 2020 المنصرم بالانشغال بوباء كوفيد 19 اهتبلت انفراجة في العزل المجتمعي المضروب علينا في عموم ألمانيا، وكنت مـللت من حبس البيت بسبب الوباء المعروف باسم شهرته كورونا، والذي نقاربه في رمزيته بما أسماه كامو في روايته بـ "الطاعون" لكني كنت خائفاً التلاصق بزحام الآخرين. أن أسافر بعيداً بالقطار، فجاءتني دعوة بإقامة أسبوع من عائلة صديقة في ضواحي مدينة بون ببلدة هضبة ديسبورغ. فتصادف أن قرأت سيدة البيت التي تعرف اهتمامي القديم بـ "كامو" في الجريدة خبراً أثار استغرابي أنه يعلن عن مناقشة ليس في رواية الطاعون؛ بل في القصة غير المكتملة: "الإنسان الأول". تمشيت في المساء الذي سبق عودتي إلى بيتي، أنا ومُضيفي المهندس الميكانيكي المتقاعد لمكان الأمسية بمنتدى البلدة الثقافي، كان الحضور مختلطاً جُله من السيّدات مقاربات للعمر الذي يستهذفه الوباء. بعد التقديم من السيدة المديرة فتح النقاش فقالت لنبتدئ بالضيف فقدمت نفسي بأني في عام 1978 كتبتُ بحث تخرجي بكلية الآداب جامعة بنغازي في ميتافيزيقا سيزيف كامو وعبثه ووبائه الذي نعيشه اليوم. كنا نتكلم من وراء الكمامات ورغم ذلك كانت أمسية أدبية مناقشاتها أبعدتنا عن التفكير في الموت بعدوى فيروس الوباء، وفاجأهم حضوري ورجونني وهم يودعونني بتمنيات السلامة أن أُعاود صدفته في موعد القراءة القادم لكتاب جديد بعد احتفالات أعياد الميلاد .

أذكر في السنوات السابقة في عيدي الميلاد، والفصح، في ألمانيا لايفكر الإنسان في أنه سيمرض، فالمستشفيات والعيادات ودور الرعاية وبيوت المسنين تتنصل حتى من مرضاها القارّين بها، الذين حالتهم تحتاج للمتابعة الطبية اليومية، وتودعهم عند أبنائهم وأقاربهم فترة العيد حتى يحتفل العدد الكثير من أطقمها العلاجية برفاهية عطلة كافية. هذا الإجراء الذي يُربك الأصحاء، يكون في صالح هذه الفئة من المرضى وكبار السن الذين توطنوا في المستشفيات ودور الرعاية الصحية أن يكونوا في ضمة عائلية تواسيهم. سبّب وباء "كوفيد 19" هذا العام استثناءً. فكل إنسان تعدّى سن الخمسين صار مشروع مريض لإمكانية اتصاله بإنسان آخر كان دون أن يعلم حاملاً للفيروس القاتل. والأطفال الذين يكونون في هذه الاحتفالية عادةً نقطة اهتمام كبار السن من العائلة، صاروا بسبب استثناء المدارس من إجراءات العزل بالعام الدراسي الجديد مصدر خطر العدوى. فاقتصرت الاحتفاليات على الأقارب من الدرجة الأولى.

تذكرت مثال الشخص الذي نراه في صندوق الهاتف الذي صيرته وسائل تقنية الاتصال الحديثة تذكاراً. فأبواب البيوت في الحي الذي أسكنه أرضيتها تفتح على الواجهة وخلفية الحديقة، وتغلق على زجاجها استثناء بسبب المناسبة. صار الغريب المعزول مثلي الذي لايعنيه الاحتفال بعيد الميلاد يرى أمامه عبر الزجاج من الجهتين وحدات بمجموعات ألمانية صغيرة كجزر معزولة مكتفية بنفسها. في الساعة الثانية عشرة من منتصف الليلة المنهية للعام الميلادي 2020 ، دق علّي الباب جاري المستشار القانوني في السياسة الحزبية، مبعوثاً من زوجته القاضية في المحكمة، واللذان سابقاً كانا ليسرهما المالي يحتفلان في مطعم راقِ بحجز مُسبق، يدعوانني للاحتفال مع جيرانهم الأقربين المعزومين وقوفاً تحت رذاذ المطر في حديقة دارهم. ورغم حظر الألعاب النارية أطلق شبابٌ من الجيران على بعد شارعين صواريخ قليلة أضاءت السماء. اكتفائية الاحتفال بأيام عيد الميلاد والانزواء في الداخل عن خارج أبواب البيوت، انزاحت في الاحتفال بقدوم العام 2021 لتنفتح تضامناً، وإن كان إنسانياً ضيّقاً، مع موصوم مثلي بقرار عزل سياسي ليبي، بالاحتفال ضد انعزالية الخواف من الإصابة بفيروس كوفيد 19 المسمى بالوباء.