Atwasat

الأغنية الليبية.. ليست بهجة فقط! (2 -1)

سالم الكبتي الأربعاء 10 فبراير 2021, 03:19 صباحا
سالم الكبتي

تبدأ الأغنية- كل أغنية - من كلماتها وتكتمل لحنا وأداء. الكلمة هي المؤثرة.

وطريق الأغنية لدينا كان طويلا. ينطلق من بعيد عبر الزمن. ويتداعى في كل الظلال والألوان. الأغنية الليبية لم تأت من فراغ. لها جذور في الأعماق وكانت لصيقة بالإنسان الليبي أكثر من الكلمة المكتوبة. اكتفى في كل تفاصيل حياته بالكلمة واللحن. وجد فيهما براحا كبيرا للتنفيس عن أحزانه وشجونه. وآلامه ومتاعبه طوال النهار والليل أيضا. وكذا جعلت له تلك الأغنية بدورها مجالا لتفأؤله وفرحه وتطلعه على الدوام إلى حالات جديدة ينهض فيها من ذلك الحزن ويتخلص منه. عندنا في ليبيا تأخرت الكلمة المكتوبة، لكن الشخصية الليبية أطلقت مايدور في نفسها ومايحتبس داخلها في نقوش اللوحات. والرقص. والغناء. والشعر العامي إلى أن تطورت الأحوال وتقدمت الظروف بوسائل التعليم والكتابة والثقافة وغيرها. كان أدبنا الشفوي وتراثنا وهما من عناوين الشخصية المهمة صوتا لكل إنسان ليبي. القول والحكايات والأمثال والأغاني والقصائد المليئة بالتجربة والخبرة والمعايشة والحزن والقهر والظلم والحاجة كان ذلك الإنسان بين الصحراء وفي الساحل يلاقي خلالهما أصدق وسيلة للتعبير والتنفيس والشعور بالحرية والانطلاق. لايمكن في تلك الحقب ومابعدها أن يعبر الليبي عن حزنه أو ضيقه أو بهجته إلا بمثل أو أغنية أو حكاية سائرة. لم تكن النكتة كما حدث لاحقا، خاصة على المستوى السياسي، سمة لليبيين إلا بعد أن تكسرت النصال على النصال!

أن هذا التراث الاجتماعي بكنوزه لم ينل العناية الكاملة والمطلوبة من دارسي الفلسفة وباحثي الاجتماع للكشف عن مدلولاته النفسية والاجتماعية والإنسانية العميقة. ولو كان في منطقة أخرى من العالم لحصل على تلك العناية العلمية وتحليله وسبر أغوار الشخصية الوطنية. ظروفها. الأسباب. المكان. الزمان. التاريخ. العلاقات. اللهجة. العادات والتقاليد. وكل شي في هذا التراث الحافل بأسراره وألغازه والاندهاش الذي يتركه فينا. كل شيء في الغالب في هذا التراث يلخص وجودنا في هذا الوطن ويشرح حالنا ويحلل شخصيتنا التي تحتاج على نحو متصل إلى من يشعل النار داخلها لتنهض من نومها الثقيل.

الأغنية الليبية بعفويتها وأصالتها كان وراءها تاريخ. رافقت حركة القوافل في دروب الصحراء وصولا إلى الشواطئ والتجارة. كان الفن ينتقل مع هذه القوافل ويتمازج ويختلط ويعيش بين الناس. شهدت أنحاء مرزق وتلال الجفرة وغيرهما بذرات سفر الكلمة واللحن. ثم حدث الإعجاب والتلقي واختلاف الأذواق والتطوير، وهذه طبيعة الحياة.

ويلاحظ كل مهتم أو دارس للأغنية الليبية مراحل تاريخية ظلت فيها تنضج وتتحرك. إن الاهتمام بنصوصها وفتراتها ومعايشتها لحياة الفرد الليبي وظروفه وصمودها في وجه التشويه والسرقة والاعتداء الذي طال كل شئ في حياتنا الفكرية والفنية والتاريخية، ثم طال ليبيا بكاملها، أمر يستوجب الحرص قبل أن تضيع وتتلاشى ويتدارك ماحدث من قصور وإهمال.

والمراحل التاريخية نستطيع أن نفترض أن لها مدارس ومنهجا يرتبط ببعضه وإن كان لكل مدرسة غنائية وشعرية طابعها الخاص. أنا أفترض هنا أنه بالإمكان أن يتوصل الباحث إلى هذه المدارس (المفترضة) _ غير تلك التي ظلت مجهولة منذ فترات قديمة تتحدد في مرحلة أولى هي: امحمد قنانه. جعجوع العكعك. ومن عاصرهما من شعراء كبار ظلت أقوالهم غائبة حتى هذه الأيام.

ثم: عمر بورنانه. أحمد رفيق. يوسف الفيلالي. علي البيزنطي. أبوبكر جعودة. عبدالهادي الشعالية. عبد الخالق الصابري. عبدالكريم جبريل. عمر جعودة. السنوسي السايح الشناري. علي الطيناشي (ديده).

ثم: محمد سليم. بشير فهمي. السيد بومدين. عبدالحميد امساعد. عابد البناني. عبد اللطيف بوعرقوب. محمد حقيق. علي السني. عبدربه الغناي. عبدالسلام قادربوه. مسعود بشون. محمد المريمي. ابراهيم إطوير. فتحي المرشتي. خديجة الجهمي. أنور الهوني. عبدالحميد الشاعري. يوسف الدلنسي. صالح الشنطة. مصطفى القرقوري. عبدالسلام صالح. الشريف الجامعي. محمد مخلوف. أحمد عنان.

إن هؤلاء الشعراء وغيرهم ممن ظلت أسماؤهم مستعارة، وغيرهم . مثال وليس حصرا نهائيا شكلوا مراحل متجددة لمسيرة الأغنية الليبية، ومن هذه المدرسة أو المدارس الغنائية الليبية تشكلت عديد الأصوات والإبداعات وتواصل عطاء الشعراء والكتاب. ولا أريد هنا أن أغفل جانبا مهما في هذا الفن قام به أيضا اليهود الليبيون من الشعراء والفنانين وهو موضوع سيقع في مقال منفصل مستقبلا. لقد نظموا ولحنوا وغنوا أيضا. كان هناك بوحليقة ونسيم وبوديسه وزكريا حبيب وغيرهم.

لظروف اجتماعية كان المهتم بهذا الشأن الفني والثقافي والاجتماعي يلاحظ بوضوح أن بعض من نظم الأغنية الليبية لم يقدمها بأسمه الحقيقي ولكنه اختفى بعيدا عنها أو اختار اسما أخر. والأمثلة متعددة: نجمة جبريل (بنت درنة). عمر دبوب (عمر الشامي). عبدالوهاب الدالي (أبن الخطيب). يوسف الشين (يوسف محمود) نصري إبراهيم (بنت العروبة). خديجة الجهمي (بنت الوطن) عبدربه الغناي (أبوفضيل) حسين الغناي (أبو طه)، وتتوالى الأسماء وهي كثيرة.

إن الحماس وحده لا يكفي. وتاريخنا الفني بأغانيه وتراثه مازال يحتاج إلى الكثير. الوسائل متاحة. الوقت لدى باحثينا متوفر إذا ماجعلوا منه حيزا للعمل. فقط تبدأ نقطة الانطلاق بمن يهتم في الوطن بسيرة الوطن وماضيه.. بدلا من الوصول إلى لحظة تسقط فيها الدموع الغزيرة دون جدوى!!