Atwasat

المتاهة تعود بنا إلى البداية

سالم العوكلي الثلاثاء 09 فبراير 2021, 11:43 صباحا
سالم العوكلي

أتصور أن كل مبعوثي الأمم المتحدة إلى ليبيا في العشر سنوات الماضية أطلعوا على كتاب أو (دراسة) أدريان بيلت أول مبعوث إلى ليبيا، وأدركوا أنه بقدر ما هناك تغيرات دولية وإقليمية، ومتغيرات محلية يتعلق بها مشروع بناء الدولة الليبية المتشظية من جديد، بقدر ما هناك تشابه بنيوي في الأزمة الليبية بين فترة السنتين اللتين عمل فيهما بيلت وبين هذه السنوات.

بعد كل هذه السنوات تغيرت روح وطبيعة واستقلالية منظمة الأمم المتحدة التي حرصت في تلك الفترة على أن تنجح مهمتها في ليبيا باعتبارها المهمة الأولى للإسهام في استقلال دولة وتوحيدها ووضعها على مسار الدولة المدنية القابلة للتطور، بعد مهمتها الأولى في قرار التقسيم الذي اعترف بالكيان الصهيوني، الذي تشكلت فيه سلطة تبحث عن شعب بينما في الحالة الليبية كان شعب يبحث عن سلطة أو دولة، كما تغيرت طبيعة الصراعات الدولية وتدخلها في عمل المندوبية وتأثيرها على الأطراف المشاركة، ويتمثل هذا التغيير في كون ليبيا كانت في تلك الفترة تحت وصاية دولتين من الدول المنتصرة في الحرب، طرابلس وبرقة تحت سلطة الإدارة البريطانية وفزان تحت إدارة السلطة الفرنسية، وتصادم المبعوث كثيرا مع هذه الإدارات الموجودة على الأرض والتي لها أجندات مختلفة غير ان قوة القرار الصادر من الجمعية العامة للأم المتحدة ساعدت المفوض وحجمت من نفوذ هاتين الإدراتين، ولم يعد لقرارات الأمم المتحدة هذه القوة بعد أن اختزلت في الدول النووية الدائمة العضوية في مجلس الأمن التي يصعب اتفاقها على أي مسألة دولية، دون أن نقلل من تأثير قوى أخرى كانت لها أدوار في تلك الفترة، إيطاليا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. كما كان لحضور مصر وباكستان دور مهم عبر أعضائهما المشكلين لأول مجلس وطني في ليبيا تكون من عشرة أعضاء، ثلاثة يمثلون الأقاليم الليبية، وواحد يمثل الأقليات (الطليان والمالطيين واليونانيين واليهود)، وستة لكل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا والباكستان ومصر.

ورغم الحديث عن الأطياف السياسية في ملتقى الحوار الجاري (لجنة الخمسة وسبعين) إلا أنه يعكس صراعا جهويا في داخله يحكم مسألة التصويت والمحاصصة الجهوية في مخرجاته، لأنه في الواقع لا يوجد إلا (طيف سياسي وحيد) وهو طيف الإسلام السياسي، والذي أفضل تسميته (الشبح) بدل الطيف لأنه بقدر ما يحرص على أن لا يكون مرئيا بقدر ما يثير الفزع حيثما حل. أما الاختلاف في القوى المؤثرة على الأرض يكمن في كون اللاعبين الأساسيين الموجودين على الأرض الآن، هما تركيا وروسيا، بل بريطاينا وفرنسا.

ويبدو أن السيدة ستيفاني، بعد متاهة طويلة تعامل معها كل مبعوثي الأمم المتحدة، قد عادت للاستفادة من تجربة أدريان بيلت، وما حدث أخيرا من خلال تشكيل مجموعة للحوار الليبي تتألف من 75 عضوا يمثلون الأقاليم الثلاثة، وهذه المرة بدون تساوي حصص الأقاليم كما في لجنة الواحد والعشرين، وبدون أن يكونوا منتخبين، يشبه تماما ما حدث في منتصف القرن الماضي عبر تشكيل لجنة الواحد والعشرين الممثلة للأقاليم الليبية، كمحاولة لاختزال الشارع الليبي في هذا الجسم القابل للتعاطي معه، وحيث كانت مهام لجنة الواحد والعشرين تشكيل حكومة موحدة وتأسيس جمعية وطنية من أولى مهامها صياغة دستور للدولة، وتهيئتها لاستحقاق الانتخابات التشريعية، وهي نفسها مهمة الخمسة وسبعين. وهذا التدخل المباشر من المندوبة بالإنابة هو ما عمل المبعوث السابق غسان سلامة على تحاشيه عبر تجهيزه لمؤتمر حوار وطني شامل ينبثق منه جسم مصغر يمكن جمعه في قاعة واحدة في جنيف.

تحاشى بيلت في تلك الفترة إلى أبعد حد تدخله المباشر في اختيار الأعضاء السبعة من كل إقليم، كما قاوم محاولة تدخل الإدارات الأجنبية الحاكمة للأقاليم بحيث يكون الاختيار عبر سلسلة مشاورات في كل إقليم، وكان الأمر سهلا بالنسبة لبرقة التي سيختار فيها الأمير الممثلين بعد مشاوراته مع القوى السياسية والاجتماعية وحكومة برقة، وكان أيضا سهلا في فزان التي سيتم فيها الاختيار عبر اجتماعات قبلية بين مكونات هذا الإقليم، بينما كان الأمر صعبا في طرابلس التي تشهد في تلك الفترة صراع تيارات سياسية وقوى اجتماعية وقبلية يصعب الاتفاق بينها، وفي أثناء السعي لإكمال لجنة الواحد والعشرين من خلال اختيار الممثلين الطرابلسيين كانت بعض الأحزاب الطرابلسية تصدر بيانات رافضة، بل وأحيانا مخونة للمفوض في مهمته، ومحتجة على فكرة التمثيل المتساوي بين الأقاليم المختلفة كميا ونوعيا، غير أن التفاهم بين الشخصيتين الرئيستين في طرابلس وبرقة: بشير السعداوي، وإدريس السنوسي ذلل الكثير من المصاعب التي كانت تواجه عمل المفوضية.

في الجزء الخامس من دراسته الضخمة (استقلال ليبيا والأمم المتحدة) ترجمة محمد زاهي المغيربي، وتحت عنوان "إلى العمل، 27 يوليو ـــ 31 أكتوبر، 1950" يذكر بيلت أنه "في 25 يوليو، بعد ستة أسابيع من سعي المفوض لأول مرة للحصول على مشورة المجلس حول أسلوب اختيار الوفد الطرابلسي، أصبح من الممكن أخيرا انعقاد لجنة الواحد والعشرين. ولعدة أيام كانت طائرة الأمم المتحدة تنتظر لإحضار وفدي برقة وفزان، وكان فريق موظفي البعثة قد استكمل ترتيبات خدمة الاجتماعات. وكما برهنت التطورات اللاحقة، فُتح فصل جديد في التطور الدستوري في ليبيا.

وعند هذه النقطة بدا أن مشاروات بنغازي قد أدت إلى ناتج ثانوي مهم: اتفاق بين الأمير وبين بشير بي السعداوي حول شكل الدولة. وفي أوائل يوليو، أخبر المفوض زعيم المؤتمر الوطني الطرابلسي بأن وضعا جديدا أخذ في التطور نتيجة لقرار الأمير بالتخلي عن خطته حول استقلال برقة وبأنه سيقوم بدور نشط في الجهد المشترك لتأسيس ليبيا الموحدة من جانب، ونتيجة لإعلان أحمد بي سيف النصر عن استعدداه لقبول ليبيا موحدة تحت قايدة الزعيم السنوسي من جانب آخر. وبالتالي فقد حان الوقت لأن تتوصل طرابلس وبرقة إلى اتفاق حول شكل الدولة، ما يعني إزالة العقبة الخطيرة أمام مزيد من التقدم الدستوري". أذكر هذا الاقتباس الطويل في محاولة للإشارة إلى أن طبيعة الصراع وظروفه المؤثرة تتكرر، وأن شكل الدولة مازال سيكون العقبة الرئيسية أمام التقدم الدستوري.

لقد أفضت لجنة الخمسة وسبعين الشبيهة بلجنة الواحد والعشرين إلى جلسات منقولة مباشرة لانتخاب السلطات المؤقتة في ليبيا لمرحلة انتقالية (سادسة) وفي آخر تصويت على القوائم التي كان على رأسها أشخاص هم جزء من الأزمة ، وصعب أن يكونوا جزءا من الحل، لذلك ورغم الشفافية التي تغنى بها الحاضرون في كلماتهم كانت الكواليس تجهز لقائمة لم تكن في الواجهة، اعتبر المتابعون وحتى بعض المشاركين في الحوار نجاحها مفاجأة. وكما حصل سابقا ومرارا، أفضى هذا المخاض إلى أسماء تتقلد قيادة هذه المرحلة الحرجة لم يسمع بها معظم الليبيين سابقا ولا تاريخا سياسيا لها ولا حتى جغرافيا سياسية كما كان للأوائل، وكأن ليبيا شركة في قطاع عام يختار لها أسماء لإدارتها (كيف ما كان) لتصبح مجرد جسم معترف به دوليا تُعقد معه الصفقات ويتدوالها الإعلام كسلطلة شرعية معترف بها دوليا.

لست متفائلا بهذه الترويكة الجديدة التي تشبه فلما حضرناه من قبل، لكني أحب أن أختم باقتباس للدكتور زاهي المغيربي من المقدمة التي كتبها لترجمته كتاب أدريان بيلت: "وتشي السردية التي يقدمها هذا المؤلف الضخم بأن ما تحقق ما كان يمكن له أن يتحقق لولا أن هؤلاء الرجال، سواء في لجنة الواحد والعشرين، أم الجمعية التأسيسية الوطنية، أم بين أحزاب المعارضة وجماعاتها، وخلفهم كلهم السيد إدريس أمير برقة وقتها بحكمته وحنكته، كانوا على استعداد في نهاية المطاف لتقديم التنازلات المتبادلة والتوصل إلى الحلول التوفيقية التي أوصلتهم في النهاية إلى هدف الاستقلال والوحدة الذي كان مطمحهم ومطمح غالبية الليبين". انتهى الاقتباس، وأضيف أن وصف السيد إدريس بالحكمة والحنكة تردد كثيرا في الكتاب كرأي شخصي لأدريان بيلت. وأن د. زاهي حين يسمي من قادوا تلك المرحلة ب "الرجال" فلأنه لم يكن في الواقع ثمة مشاركة مباشرة للمرأة عبر كل الأسماء التي سردها الكتاب، وما أراه إيجابيا الآن هو المشاركة الفاعلة للمرأة الليبية في هذا الاستحقاق الذي يفتح نافذة في هذا البناء المعتم صوب الأمل، وكل ما أتمناه أن يخيب توقعيٍ السلبي ويصل بليبيا إلى بر أمان الانتخابات.