Atwasat

الكلمة ومدلولها في الخطاب القرآني

فلاني عبدالرحمن الزوي الثلاثاء 09 فبراير 2021, 11:40 صباحا
فلاني عبدالرحمن الزوي

تعامُلنا مع القرآن على أنه نص كتاب مقدس فحسب بدلاً من أن نجعله منهاج عمل وخارطة طريق، بهذا النمط من التعامل وضعنا القرآن في تابوت وقمنا بتحنيطه في تنافس وتفاخر من يمتلك أقدم نسخة أومخطوطة منه، وحولناه من كتاب عمل وهداية إلى كتاب يتلى في الصلوات وعلى الموتى بعد دفنهم وانقطاع الصلة بينهم وبين القرآن وتعاليمه وهديه، زينّا به المكتبات ووضعناه في قاعات المحاكم أمام القضاة لحلف اليمين وللقسم عند حفلات التخرج أو تولي المناصب السيادية، وبهذه الطريقة أصبح تعاملنا مع القرآن يشبه تماماً تعامل اليهود مع التلمود والنصارى مع الإنجيل لا تُفتح صفحاته ولا يتم تدبرآياته وتحليلها وإسقاطها على حياتنا كما أمرنا الله.

القرآن هو كلام الله الحي القيوم، وكلامه هذا للأحياء الذين يسمعون بأذانهم وتعيه عقولهم، فمنذ أن وصلهم البلاغ وأصبحوا مكلفين بالإنصات لهذا الكلام متدبرين ومحللين بما آتاهم الله من بصيرة كمحصلة ونتيجة لتلك النفخة التي نفخها الله سبحانه وتعالى في الإنسان بعد أن سواه والتي بسببها أُمِرت الملائكة بالسجود له وأصبح حُرا مُخيرا بين أن يفعل أو لا يفعل، بين طريق الهداية إذا شاء أو طريق الغواية والضلال إن أراد وانحرف، (وهديناه النجدين)، ولهذا السبب جعل الله الثواب والعقاب وخلق الجنة والنار وبعث محمدا عليه السلام بشيراً ونذيرا وخاتما للرسالات السماوية وأغلق باب الرسالات والرسل ليتولى الإنسان أمر نفسه بنفسه دون إكراه وبدون رقيب ولا حسيب إلا ضميره وخالقه. أن هذا المتكلم كلامه دائم بدوامه وهذا يترتب عليه أن يكون المستمع والمتلقي حاضراً ومستمعاً كما كان بالأمس واليوم وحتى قيام الساعة، أما الذين كُتب عليهم الموت فقد أقفلت حساباتهم وطويت صحيفة أعمالهم، ومنذ تلك اللحظة لم يعد الكلام والخطاب موجها إليهم وليسوا ملزمين بتدبره وتبصره، وسيكون الخطاب الإلهي موجها لمن سيخلقون لاحقا وسوف يعنيهم عندئدٍ كذلك وإلى يوم القيامة.

إلى يومنا هذا نجد غالبية من يقرأون القرآن يرددون كلاماً بألسنتهم نطقاً وترانيم دون تدبروتحليل ومقارنة ودون البحث أو النظر في الحيثية والبيئة التي تتحدث عنها وفي دائرة طيفها وداخل محيطها الكلمة أو الآية.
طالب العلوم التقنية بمختلف فروعها نجد القاريء حريصاً على فهم وإتقان وتحليل الكلمة والجملة أوالمعادلة الرياضية باحثاً عن الحل والنتيجة مستخدماً كل الوسائل الممكنة للوصول إليها وتفكيك رموزها حتى يتمكن من الوصول إلى الحقيقة العلمية المنشودة، هذه العملية التدبرية والتحلية لم تحض بها آيات القران من جانب معظم القُراءَ حتى يومنا هذا، بل تجد من يحفظونه عن ظهر قلب ووفق قواعد النطق ولكن لا يعي ولا يُدرك كُنه الآية ولا العبرة من القصة وسردها مع العلم بأن الله يخاطب هذا الإنسان الحي ويقول له، (إن في قصصهم عبرة لأولي الألباب).

التحدث بلسان قوم لا يعني إتقان لغتهم وفهم تضاريسها، ولا يعني الإلمام بعمق وجذور الكلمة ولُبها وموروثها، هذه المقدرة والإمكانية تحتاج إلى عدة عناصر متداخلة مع بعضها البعض لتصنع مدلول الكلمة وعمقها ومقامها، وتقيس مساحتها وحجمها بكامل أبعادها بناء على وحدة القياس المتفق عليها عند أهل تلك اللغة وأصحاب ذلك اللسان في تلك البيئة والمناخ والتضاريس التي نشأت فيها.

وعلى سبيل المثال لا الحصرعند قراءتي لهذه الآية ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219). صدق الله العظيم.)). عند التوقف برهة والتساؤل ولماذ طرحوا سؤالهم على محمد عليه السلام والمتعلق بتحججهم بماذا ينفقون عندما نهاهم الله عن الخمر والميسر حتى يستوجب الرد عليهم بقوله تعالى (قل العفو )، أي ما يزيد عن حاجتهم ينفقونه كبديل وجواب لسؤالهم، ومن خلال التقصي والعودة إلى كيفية وطبيعة مجالس الخمر والميسرعند العرب في الجاهلية وكيف كانت وما ينتج عنها من ذبح للجزر وإطعام وإعطاء لحومها للفقراء ولعابري السبيل والذين كانوا يهتدون للمكان بوجود النار ليلاً، فمن هنا جاء تساؤلهم بالقول (إذا أقلعنا عن الخمر والميسر والتي يصاحبها نحر الجُزر، إذاً كيف ومن أين نطعم عابري السبيل مع علمنا بأن العطاء والكرم من شيمهم، فيأتي الرد جاهزاً (أنفقوا العفو أي مما زاد عن حاجتكم من طعام فبهذا انتهى المبرر المبني على ذلك التساؤل وأعطى الله البديل لحل مشكلة الفقير وعابر السبيل، ففي هذا السلوك والعطاء منفعة للفقير والغريب وعابر السبي).

هذه الصور المتكاملة الثلاثية الأبعاد من لفظ ومضمون ومقام للمقال ليست في القرآن فحسب، بل سبقت نزول القرآن في أشعار العرب وتشبيهاتهم وصورهم البلاغية، وبدون الإلمام والمعرفة بهذه الأبعاد من المستحيل أن تٌنقل أو أن تصل الصورة كاملة للسامع أو للمتلقي، وبناء على هذه الخلفية الاجتماعية والثقافية وما يحيط بها من عادات وشيم وخصال عند العرب والذين بعث الله فيهم محمدا عليه السلام، أصبح بالضرورة ومن الواجب قطعاً اشتراط صفات معينة لما يجب أن يكون عليه حال وأهلية المفسّر للقرآن- هذا إن صحت وجازت كلمة التفسير أصلاً- وبدون هذه الخلفية الثقافية النابعة من إرث وعادات وتقاليد المجتمع ولغته وتراثه يكون ما أطلق عليه لفظ تفسير لا يعدو كونه أشبه بالترجمة الحرفية لكلمات من لغتها الأم إلى لغات أخرى دون عمق المعنى والوصول للمدلول لأصل تلك الكلمة والسياق الذي استخدمت فيه.

ومن هنا كان عبثاً ولا معنى لترجمة القرآن ترجمة حرفية كما هو الحال الآن من اللسان الذي نزل به وهو اللسان العربي إلى ألسنة أخرى، لأن جزءا بل وشرطا من فصاحة القرآن وبلاغته وبيانه، هو تقديمه وتبليغه بهذه اللغة وهذا اللسان كما بينه الله في محكم كتابه (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين). سورة الشعراء، وليس الترجمة فحسب بل ينطبق هذا على كم لا بأس به من تفاسير مضت عليها قرون ولا تزال نافذة الأثر ومعمولا بها مع علمنا وتسليمنا بأن هذا القرآن هو كلام الله وقول الله يخاطب به الإنسان الحي وليس الميت بعد موته، القرآن منهج حياة بكامل جوانبها وصالح لكل زمان ومكان، وبهذه الخاصية فإن تفسيره في عصر مضى قد لا ينسجم مع قوله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم إنه الحق)، فهذه الآية وبهذا النص تفيد الاستقبال المتجدد والمستمر وحتى قيام الساعة، لكي تتحقق المعجزات ويرتقي الإنسان درجات على سلم العلوم كما نرى اليوم مقارنة بالأمس ونشاهد في مختلف جوانب الحياة مُسلّمين بقوله تعالى وفوق كل ذي علم عليم، (من طاقة نار الأخشاب الفحم إلى طاقة الغاز والكهرباء ثم الذرة اليوم، ولا ندرى ما سيكون الحال في المستقبل).

من خلال هذا الطرح أعتقد بأنه حان الوقت وأصبح من واجبنا ومسؤوليتنا أن نتعامل مع القرآن ليس فقط ككتاب روحاني تعبدي فقط، بل وجب علينا اتخاذه منهج عمل وخارطة طريق وكتاب هداية إلى أقوم الطرق وأفضلها وأيسرها،(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). أي ليس هناك من هداية للإنسان أهدى وأفضل مما جاء به القرآن. ( ذلك الكتاب لا ريب فيهِ هُدى للمتقين).
ليس هناك أدنى شك في أنه إذا عملنا بما في القرآن من إرشادات وعلامات وعبر من قصص، وما احتوى عليه في الجانب الاجتماعي والأخلاقي وجوانب الأسرة ومعاملات في مجال التجارة والمعاهدات الدولية وفي الحرب والسلم، لو عملنا بهذا حتماً سنكون من أسعد الأمم لأن هذا المنهج هو منهج رباني منزل من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.