Atwasat

ذاكرة مكان: (البراكة) 59

صالح الحاراتي الثلاثاء 09 فبراير 2021, 01:26 صباحا
صالح الحاراتي

كنت فى زيارة لصديق طبيب فى عيادته بعد غياب دام سنينا.. كان بالعيادة معمل تحاليل وبينما كان الطبيب يكشف عن مرضاه كنت أتجاذب أطراف الحديث مع فني التحاليل انتظارا لصديقى الطبيب حتى ينهي مهمته.. لفتت نظرى مفكرة على مكتبه استأذنته كي أطلع عليها، فقال لى تفضل هي لك.. عندها التقطتها وتبين لى عنوان مكتوب على غلافها "المرشد الزراعي" وأثناء تفحصي لها وجدت على كل صفحة معلومة زراعية.. المحاصيل الشتوية والصيفية وكيفية الاعتناء بالنباتات من تسميد وأدوية وخلافه، أعجبتني وشكرته على انه أهداها لي لأن ما بها من معلومات أنا فى حاجة ماسة لها لتساعدني في الإجابة على أسئلة "عبد الغفار ورجب".

"عبد الغفار ورجب" فلاحان مصريان جاءا بتوصية من أحد الأصدقاء لكي نبدأ سويا رحلة نضالية جديدة مع أرض جرداء لنجعلها منتجة وذات مردود اقتصادي، وقد كان .

عرفت من صديق أن هناك مصلحة تتبع وزارة الزراعة تختص بالبذور والشتلات والأدوية الخاصة بالآفات الزراعية.

ذهبت إليهم يوما وتعرفت لأول مرة على مهندس زراعي حدث بيننا القبول والتفاعل الإيجابى.. المرة الثانية التقيته فى ساحة خارج مكتبه، استأذنته لأحكي له عن حالتي وظروفى وأوضحت له بكل صراحة وكأنه صديق حميم .. أننى أبدأ من الصفر وأنني عائد من الغربة وأنني من أهل المعارضة.. فتعاطف معي الرجل وعبرعن اتفاقه معي في أن نظامنا السياسي نظام جائر.. ولذا وكما أسلفت كانت الكيمياء المشتركة تفعل فعلها.. وقد قام بمساعدتي بالاستشارة والمتابعة بدون مقابل وكان له فضل كبير فى نجاح تجربتي مع الزراعة.

نأتي الى"البراكة" 59 ..
فهي المكان الذى دلنى عليه صديق لكي تتم عملية تسويق الإنتاج من خلاله، وهو مكان فى "سوق جملة الخضار".. تقوم بتسليمه إنتاجك يبيعه لك ويحاسبك في نهاية الأسبوع بعد خصم نسبة معلومة نظير تسويقه الإنتاج .
والذي يديرها هو "الحاج بلعيد" وشريكه وكانا يحملان فعلا صفات الأمانة والنزاهة التى قيلت لي عنهما ممن عرفني بهم .

اللقطة التى أذكرها أنه عندما أحضر منتوجي يصر الحاج بلعيد على أن ينادي بأعلى صوته.. تفضل يا دكتور.. تفضل يا دكتور.. "نوض يا ولد خوذ من الدكتور"... وكانت العيون تلتفت إليَّ بشكل فضولي للتعرف على هذا الدكتور الفلاح !
كنت أبتسم للحاج بلعيد الذى يصر أيضا على أن يقدم لي الشاي "طاسة مربربة" ثم يسجل ما أحضرته وأودعه شاكرا .

كان الحاج بلعيد يقدم لي النصائح الزراعية ويذكر لي أفضل أنواع البذور وأفضل المزروعات من ناحية المردود المالي والتوقيت المناسب للزراعة حتى يأتي الإنتاج فى توقيت مناسب للسوق أي في بداية موسم أي نوع من المزروعات .
أتذكر "البراكة" 59 وأهلها الطيبين بكل خير، لأنها كانت بابا للخير بالنسبة لي على مدار سنوات، وبها تعرفت على أناس أنقياء قل أن يجود الزمان بمثلهم فى القناعة والأمانة والرضا .

بعد سنوات توفي الحاج بلعيد رحمه الله ولم أعد أذهب إلى هناك فقد غاب الإنسان البسيط الشهم الأمين ولم يعد حال "البراكة" 59 كما كانت .. وتزامن ذلك مع تغييري مجال اهتمامي ونشاطي، ولكن الحاج بلعيد لم يغب عن الذاكرة .

* البراكة: دار مبنية بالصفيح والأخشاب ولكن هنا يطلق الاسم على محلات مبنية بالطوب والخرسانة فى سوق الخضار بالجملة.