Atwasat

حقوق الإنسان وإشارات المرور الضوئية

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 07 فبراير 2021, 11:09 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

في مقاله "ما فوق الدستورية)"* يسلط الهادي بوحمرة ضوءا كاشفا على المأزق الفعلي الذي يكتنف الشعب الليبي حاليا. وهذا المأزق يتمثل في "الاختراع الليبي" لمبدأ يسمى "ما فوق الدستورية" ويُقصد به أن ثمة مبدأ، يختلف محتواه من طرف لآخر، يعتبر متعاليا على الدستور وحاكما عليه، وثابتا لا يُمس على أي نحو

"فمن يدفع بالعودة إلى الملكية يراها (فوق الدستورية)، وأن لا منجاة إلا بها، ولا استقرار إلا معها، ومن يقول بالفيدرالية يضعها فوق الدستورية، ويعدها من أسس وجود الدولة، ويرفض إعادة البناء إلا عليها، فبدونها لكانت الدولة دولا، ولكان الوطن أوطانا، ومن يؤمن بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان يرها (فوق دستورية) بكامل إعلاناتها ووثائقها وعهودها، ويرفض أي تحفظ عليها، ومن يتمسك بالشريعة الإسلامية يقطع بأنها دستور الدستور، ويذهب إلى أبعد من الثابت منها، ويوجب الالتزام بالوقوف عن اجتهادات فقهائها"

وهذا مأزق حقيقي لا يمكن إنكاره، أو الاستهانة به. وهو مأزق يتعلق بالمجتمعات الانقسامية التي ينفلت فيها، في ظروف معينة، عقال الانقسام والمعاضلة وتنشط فيها بحدة "الهويات دون الوطنية" من جماعات عرقية ومؤسسات اجتماعية قبل رأسمالية (= قَبَلِيَّة)، ومدينية وجهوية. ويطرح هؤلاء الفرقاء مطالب متطرفة يؤدي التمسك بها ومحاولة تحقيقها، غالبا، إلى حروب أهلية مهلكة ومدمرة تعمق هوة الاختلافات وتورث الأحقاد التي تظل تستعر في النفوس عبر أجيال عديدة.

إلا أنه لدينا إشكال على نقطة في الاقتباس الذي أوردناه أعلاه، حيث يضع بوحمرة المطالبة بتطبيق "الشرعة الدولية لحقوق الإنسان" على نفس مصاف المطالب الأخرى. إذ نرى أن المسألة هنا لا تتعلق باعتبار هذه الشرعة "(فوق دستورية) بكامل إعلاناتها ووثائقها وعهودها" دون أي تحفظ عليها، وإنما يتعلق بضرورة (نعم، ضرورة) أن تشكل هذه الشرعة روح أي دستور عصري (بالمعنى الجوهري لروح العصر وما أنجزته الإنسانية من تطور في هذا المجال، وليس بالمعنى الزمني). ونعم، أيضا: دون أي تحفظ عليها. لأن التحفظ بخصوصها لدى الدول الإسلامية وحركات الإسلام السياسي يتعلق بجوهرها، وهو "حرية المعتقد" وليس على مسألة ثانوية. إذ ثمة أصوات تعترض على مبدأ حرية الاعتقاد وتقبل بحرية الرأي، وهي مغالطة كبرى تستغفل العقول. إذ لا يعود للقبول بحرية الرأي معنى وأثر إذا حجبت حرية المعتقد. وهذا، بالضبط، مفعول المادة السادسة من مشروع الدستور الليبي المزمع عرضه على الشعب للاستفتاء عليه، التي تنص على أن ""الشريعة الإسلامية مصدر التشريع". فمهما حوى هذا المشروع، في حالة صيرورته دستورا، من حقوق غاية في الإنسانية والديمقراطية، فستظل النصوص على هذه الحقوق مجرد "تحلية" لا تضيف أية قيمة حقيقية واقعية فاعلة.

إن الالتزام "بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان [...] بكامل إعلاناتها ووثائقها وعهودها، [دون] أي تحفظ عليها" هو ما يجعل الفرد "مواطنا" في دولة وظيفية له حقوق وعليه واجبات، دون أي تمييز ضده بسبب دينه أو عرقه أو جنسه أو لونه، وليس تابعا أو رعية لدولة "راعية" تتسم بالعنصرية الدينية أو العرقية أو القبلية أو المدينية أو الجهوية. وبالمجمل "دولة استبدادية" نافية لحقوق الإنسان.

فمن يدفع بالعودة إلى الملكية ومن يقول بالفيدرالية ومن يتمسك بالشريعة الإسلامية ويوجب الالتزام بالوقوف عن اجتهادات فقهائها، يسعى إلى فرض شيء على الآخرين، إما بقوة السلاح أو بحكم الأغلبية غير المراعي لمباديء الديمقراطية. أما الشرعة الدولية لحقوق الإنسان فلا تفرض شيئا. إنها ضد الفرض. فهي لا تفرض على الناس، ولا حتى تطلب منهم، تغيير معتقداتهم وأديانهم أو التخلي عنها. ولا تقف ضد الأديان والتدين والدعاية له والحض عليه، ولا تجبر الناس على تغيير آرائهم، بل هي لا تطالبهم حتى بالتعبير عنها. فمن أراد التعبير عن رأيه له أن يفعل ذلك بحماية الدستور والقانون، ومن يختار التزام الصمت يكفل له هذا الحق. لعل الشيء الوحيد الذي تسعى الشرعية الدولية لحقوق الإنسان إلى فرضه هو أن يحترم الناس حقوق بعضهم البعض، وتنظيم سير هذه الحقوق المتقاطعة، تماما مثلما تنظم إشارة المرور الضوئية انسياب حركة السيارات عند تقاطع الطرقات.

* http://alwasat.ly/news/opinions/309508?author=1