Atwasat

حروب لغوية لاتنتهي

جمعة بوكليب الخميس 04 فبراير 2021, 02:47 صباحا
جمعة بوكليب

حرب لغوية أخرى، أُعلنت مؤخراً. جاء دور اللغة اليونانية الآن، ليرفع اللغويون والحريصون اليونانيون شارات الخطر محذرين ضد هجوم كاسح من اللغة الأنجليزية. كان الفرنسيون، منذ سنوات عديدة، أول من انتبه من الأوروبيين للخطر اللغوي الانجليزي مستهدفاً لغتهم قادما من جهتين: من جيرانهم البريطانيين عبر القنال الانجليزي، ومن حلفائهم الامريكيين عبر المحيط الاطلنطي. وحين خمدت أصوات باريس يأساً، ارتفعت أصوات جيرانهم في مدريد - أسبانيا، وتلاهم الايطاليون. الآن، وتحديداً في زمن الحرب على فيروس كورونا، حان الدور على واحدة من أقدم لغات العالم لتواجه مصائر جيرانها.

التقارير الإعلامية البريطانية، الصادرة في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، عنيت بنقل أصوات احتجاج ارتفعت عالياً في بلاد اليونان، تحذّر من مغبة غزو لغوي يستهدف ابتلاع لغة تحدث بها أهلها، في منطقة جغرافية معينة أكثر من 40 قرناً، وكتب بها أفلاطون وأرسطو وسقراط، وغيرهم من أساطين الفلسفة والتاريخ والمسرح. الغزو، وفقا لتلك التقارير، ازداد قوة وانتشاراً خلال الأزمة الوبائية الحالية. اللغويون والمختصون والغيورون على لغتهم قالوا إن الجيل الجديد من اليونانيين يهجرون، وبأعداد كبيرة، لغة أجدادهم وآبائهم، إلى اللغة الانجليزية. ويوضحون أن انتشار الانترنت والهواتف الذكية جعل صغار اليونانيين يلجؤون إلى كتابة اليونانية بحروف أبجدية انجليزية لسهولتها. اللغة اليونانية المبتدعة التي يتواصلون بها وفقا للمختصين أطلق عليها اسم (Greenglish). الإشكالية الأخرى تمثلت في التجاء أصحاب الحوانيت والمخازن التجارية والحلاقين والمخابز إلى تعليق يافطات بأسماء انجليزية على تلك المحلات، كتبت باللغة الانجليزية. وخلال أزمة الوباء استورد أصحاب تلك المحلات المصطلحات الانجليزية التي ظهرت، واستخدمت في بريطانيا وأمريكا، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان على الشيوخ والعجائز اليونانيين فهم ما تعنيه، والتعامل معها خاصة لدى زيارتهم تلك المحال للتبضع.

التقارير توضح أن المعركة اللغوية الحالية، بين المنادين بالتغيير اللغوي وبين الداعين إلى المحافظة على اللغة اليونانية من غزو اللغات الأجنبية ليست الأولى من نوعها في تاريخ اليونانيين. واستناداً إلى تلك التقارير، فإنها تعود تاريخيا إلى القرن الأول قبل الميلاد. الخلافات بين الفريقين حول المسألة لم تتوقف، بل استمرت طوال فترة الاحتلال العثماني لليونان أي قرابة 400 عام. لكنها خلال حرب التحرير والاستقلال من الحكم العثماني 1821 استشرت نيرانها وازداد لهيبها. كان الخلاف وقتذاك حول اللغة اليونانية التي يجب على الدولة اليونانية المستقلة استخدامها. ويبدو أن 400 عام من الوجود العثماني قد تركت آثارها واضحة على اللغة اليونانية بشكل كبير، ولذلك حرص القوميون اليونانيون على العودة إلى استخدام لغة يونانية خالية مما علق بها من شوائب لغة المحتلين الأتراك. إلا أن استخدام هذه اللغة رسميا تعرض للتغيير مرة أخرى عام 1976. وما يلفت النظر أن أكبر دور النشر اليونانية دخلت المعركة إلى جانب التقليديين، وبدأت تحرص على تنقية ما تصدره من كتب من المصطلحات الاجنبية عموما والانجليزية خصوصاً، واستبدالها بما يقابلها باليونانية، مستعينة في ذلك بالعديد من المختصين.

المعارك اللغوية، ليست جديدة، بل تكاد تكون سمة مميزة في مسيرة الحضارات الإنسانية. وأن العديد من الأمم والشعوب أضاعت ألسنتها لصالح ألسنة الغزاة. وبالتالي، يصير من حق الأمم والشعوب الدفاع عن هوّيتها ممثلة في لغتها. ويصير من حق الفرنسيين والايطاليين والاسبان واليونانيين الخوف على مستقبل لغاتهم من الذوبان والتلاشي في لغات أخرى أجنبية، مثل اللغة الانجليزية، تعدّ بالمقارنة بلغاتهم حديثة العهد.

الحديث بطبيعته يقود إلى مصير لغتنا العربية، وما تتعرض له على يد أبنائها من تجاهل مقصود. وما تعانيه اللغات الأوروبية حالياً على يد اللغة الانجليزية لايقارن بما تعرضت له لغتنا العربية على أيدي عديد من لغات المستعمرين الأوروبيين، منذ قرون، ومازال متواصلا إلى يومنا هذا.