Atwasat

دستور معادٍ للإنسانية

سالم العوكلي الثلاثاء 02 فبراير 2021, 09:42 صباحا
سالم العوكلي

ظل اصطلاح (حقوق الإنسان) ممنوعا تداوله لفترة طويلة إبان النظام السابق في الأدبيات السياسية الليبية بدعوى أنه نتاج غربي لا يلائم مجتمعاتنا، أو بذريعة أن لنا قيمنا الدينية التي تغنينا عن هذا المصطلح ومواثيقه الدولية وقوانينه، غير أن حجة الاستلاب للغرب والتذرع بالخصوصية الاجتماعية والثقافية كانت هي الغالبة، في الوقت الذي كانت هذه الأنظمة تستخدم الكهرباء كنتاج غربي في تعذيب المطالبين بحقوق الإنسان، وتستورد من الغرب أحدث االخبرات الاستخباراتية وأدوات التعذيب وسيارات الملاحقة وغيرها.

مع الوقت أطلِق سراح هذا المصطلح، وبدأ تداوله حين أصبح جزءا من خطاب مشروع ليبيا الغد الذي تفرع عن بنية النظام المزنوق، ولكن المسافة بين ما يقال وما يحدث على الأرض كانت تُبيّن أن هذا التنازل التكتيكي ناتج عن متغيرات عالمية وليس نتيجة نضج داخلي أو رغبة حقيقية في الإصلاح، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تغيرت لهجة الإعلام الليبي المعبر عن مزاج السلطة، وبعد احتلال العراق والقبض على صدام انبث الرعب في طغاة المنطقة، وبينهم القذافي، حتى وصل الأمر إلى التسليم الطوعي لمعدات المشروع النووي في ليبيا لأمريكا مجانا، وسُمح بتداول بعض المصطلحات من باب ذر الغبار في العيون. مع بداية حراك فبراير كان الشعار الأقوى يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، غير أن حَمَلة هذا الشعار الكبير أنفسهم من الثوار بدءوا مشروعهم الجديد بانتهاكات أكثر وحشية لحقوق الإنسان، والسبب لأن هذه القيمة لم تكن جزءا من ثقافتهم ولم يتربوا فيها وكانت تدور في أفق مغلق بين النخب المدركة لقيمتها، بل إن منهج التربية الوطنية الجديد الذي أعده أكاديميون وقانونيون ومثقفون يعرفون أهمية توطين هذه القيم في الثقافة وأهمية أن تدخل المناهج في جميع المراحل، أُوقِف تدريسه، والبعض الذي أراد تعديله وضع خطوطا تحت مفردات أو مصطلحات مثل: الوطن، المواطنة، الديمقراطية، حقوق الإنسان، الدولة المدنية، الانتخابات، الدستور، وغيرها، ولم تكن هذه المرة الحجة تتعلق بالاغتراب أو الاستلاب فقط، ولكن بذريعة أنها مصطلحات كفرية.

وما حدث فيما بعد كان كله مضادا لأهداف ثورة فبراير المعلنة ومعاكس لإعلانها الدستوري، وبمجرد تفكيرنا في التيار الذي سرق هذه الثورة، وبدأ يسيطر على مفاصل الدولة، ويتعاون مع الأذرع الإسلاموية الأكثر تطرفا، ويتحالف مع دول لديها ملف حقوق الإنسان منتهك تماما، نفهم أن الأمر كان طبيعيا ومتسقا جدا مع مشروع وخطاب هذا التيار الذي استطاع أن يُمكِّن أيديولوجيته داخل مدونة الدستور المقدمة إلى مجلس النواب كمحاولة لوضع رسنٍ (المادة السادسة) يتحكم في فضاء حركة الحيز الحقوقي في الدستور، وهذا ما جعل المواد المتعلقة بحقوق الإنسان في مشروع الدستور شبيهة بمنهج ثقافة سياسية، أو بشعارات مشروع ليبيا الغد، أو بتلك المواد المتعلقة بالحقوق فيما سمي الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان. عبارت إنشائية لا تتمتع بأي قيمة حقوقية أو وضوح قانوني لأنها متضاربة ويقصي بعضها البعض، وفي الأحوال جميعا تستخدم هذه اللافتات كتقية من أجل نيل رضا القوى الضاغطة أو متطلبات الاعتراف والدعم الدولي.

وقد تطرق الكاتب عمر الككلي في مقالته (حكم الأغلبية وحقوق الإنسان) المنشورة بموقع بوابة الوسط إلى هذا المأزق الأخلاقي في طبيعته مشيرا إلى أن "حكم الأغلبية المنتخبة لا يمكن أن "يرفع الخلاف" ما لم يكن مقترنا، وجوبا، بمبدأ حقوق الإنسان.". ولأن الرد الجاهز على نقد هذا الدستور فيما يخص الحقوق أو بعض المواد المكبلة لها بكون الفيصل في الأمر استفتاء الشعب عليه يعتبر رأي القلة الواعية بهذا الخلل الجوهري لا قيمة له في الإحصاء، وبقدر ما يأتي الككلي بأمثلة أخلاقية عن كون الأغلبية ليست بالضرورة حكما على صواب المسألة المستفتى بشأنها ــ ويضرب مثلا مفاده أن لو طرح استفتاء في الصين أو بورما بشأن إبادة أو تهجير الأقلية المسلمة فسينال أغلبية ــ بقدر ما يشير الككلي إلى ظروف خاصة معني بها المجتمع الليبي قد توفر الأغلبية لتمرير الدستور رغم تعارضه مع الحقوق، مكررا تركيزه على المادة السادسة التي تنص على أن "الشريعة الإسلامية مصدر التشريع" والتي يعتبرها مثلما اعتبرها الكثير من المعترضين عليها "مادة معطلة لما هو أساسي في حقوق الإنسان". وفي احترازه من فكرة حسم الشعب لهذه المسألة عبر الاستفتاء، يشير إلى أن التلاعب بمصير أجيال "عمل يرقى إلى درجة الإرهاب. ذلك أنه يدخل من باب المقدس ويخاطب المشاعر والعواطف الدينية لدى الناس بحيث يشعرون أنهم دخلوا في باب الكفر لو اعترضوا عليها في حالة عرض المسودة للتصويت العام". وباعتبار، كما سبق أن ذكرت، أن هذه المواد الحقوقية التي تَرِد في دساتير دول إسلامية كثيرة لا تَنْفذ قانونيا، ولم تحمِ أصحاب الرأي الفكري من السجن أو الهروب إلى المنفى لأن مثل هذه المادة السادسة ناسخة لها تلقائيا، وهذه هي لعبة الطغاة السابقين والحاليين وتيار الإسلام السياسي الذي يحرص على وضع إنشاء يرضي المنظمات الدولية الضاغطة من أجل نيل رضاها وفي الوقت نفسه يدس مادة (حاكمة ومحصنة ضد التعديل) تجعل من هذا الإنشاء الحقوقي المترف مجرد غبار يذر في العيون. وأوافق الصديق عمر الككلي حين يكتب بجزمية ليست من عادته لكن يتطلبها شأن يتعلق بمبدأ حقوق الإنسان وبمصير البلد وأجياله: "فأي دستور لا يرعى حقوق الإنسان، بما في ذلك ضمان حرية المعتقد (من مثل تبديل الأديان والمجاهرة به، أو البقاء بدون دين والمجاهرة بذلك أيضا) ولا يضمن حرية الرأي، ما دام هذا الرأي محترما لحقوق الإنسان (أي يخلو من العنصرية والعداء والتحريض على الآخر المختلف)، اعتبر هذا الدستور دستورا معاديا للإنسانية. نعم. هكذا: معاديا للإنسانية.".

أنا على قناعة أن مظاهر كثيرة من الأزمة الليبية ستنتهي، وسيُشرع بشكل أو آخر في بناء الدولة برعاية الأمم المتحدة، ولكن تبقى مشكلتان أساسيتان في إعادة البناء من الممكن أن تجعلا ليبيا دائما على حافة الأزمة: الأولى تتعلق بطبيعة الدستور الذي ستنهض عليه الدولة ومدى تجاوبه مع استحقاقات المستقبل والحقوق الإنسانية الضامنة للسلم الأهلي، والثانية تتعلق بالعمل الجاري على توطين الميليشيات والتعامل معها كأمر واقع، وهو شبيه بما حدث في العراق حين اعتُرِف بمثل هذه الميليشيات، وأُدرجت كما هي في مؤسسات الدولة الرسمية تحت شعار الإدماج، مثل الحشد الشعبي وغيرها من الميليشيات التي تستمر في عمليات اغتيال سياسي لكل من يعارض مشروعها المحمي دستوريا، أو مثل مشاركة مجموعة أنصار الله الحوثية في الحوار الوطني اليمني والاعتراف بها كأمر واقع ونعرف عواقب هذا الإجراء في اليمن حتى الآن ولبنان مثال آخر. الميليشيات لا يمكن دسترتها، وفي الوقت نفسه ستظل نافذة للتدخل الخارجي في الشأن الليبي لارتباطها بأيديولوجيات أو مصالح لقوى دولية أو إقليمية. اختيار هيأة من كفاءات وطنية لصياغة دستور يحترم حقوق الإنسان، وتفكيك الميليشيات، ونزع السلاح الخارج عن القانون ، هي الأرضية التي يمكن أن تبنى عليها دولة "ليبيا على مشارف المستقبل" كما وصفتها المفوضة الأممية بالإنابة.

للتأكيد على فكرة الككلي تناهى إلى سمعي وأنا أكتب هذه المقالة خبر انقلاب الجيش على السلطة المدنية المنتخبة في بورما (ميانمار)، وما يهم في هذا السياق هو أن معظم بيانات الإدانة من المجتمع الدولي لم تتطرق إلى الزعيمة البورمية، أونج سان سو تشي، بالاسم في سياق مطالبتها بالإفراج عن المعتقلين، ويُرجع المتابعون هذا التجاهل لما تعرضت له الزعيمة من اتهامات بشأن الصمت وعدم المبالاة حيال جرائم إبادة وتهجير أقلية الروهينجا في بورما، والذي كلفها سحب جوائز عدة منها تتعلق بحرية الفكر وحقوق الإنسان، فرغم ما أنجزته الزعيمة من إرساء للمؤسسات للديمقراطية عبر تاريخ طويل من النضال إلا أن ملف حقوق الإنسان هو ما جعل إنجازها في مجال الديمقراطية مشوها ومحرجا. والحال نفسه حين لاذت الكثير من حكومات الدول الديمقراطية والمنظمات الدولية بالصمت خلال محاولة الانقلاب العسكري الأخير في تركيا لأنهم يعرفون أن في قلب هذه المظاهر الديمقراطية تُنتهك حقوق الإنسان يوميا وبشكل سافر.