Atwasat

إطراء ومصطلحات عجيبة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 01 فبراير 2021, 12:33 مساء
محمد عقيلة العمامي

في مطلع ستينيات القرن الماضي، شاعت في بنغازي مصطلحات للثناء، وأخرى للنقد، فمثلا، أن نقول لأحد ما: "أشهد بالله أنك (خَاربْ خَرَاب)" فذلك يعني أنه رائع، متميز! على الرغم من أن كلمة "خارب" لهجة تعني "عَطِن "، أما نحويا تعني لصا، أو مُدمرا. غير أن وصف أحد، في الستينيات من القرن الماضي، بأنه "خارب" فذلك ثناء، أما إضافه صفة "خراب" فهي ثناء بالغ الإطراء!

و القول: "خاطيك البلوني" فهي جملة، من ذلك الزمن أيضا، والمقصود هو السخرية مِمَن لا يجيد ما يقوم به من عمل. هذا المصطلح ظهر في نادي الهلال، وأطلقه في البداية مدرب الفريق الجزائري "الإبراهيمي" ويقصد به لاعبا يرى أنه لا يجيد لعبة كرة القدم: "خاطيك" تعني بعيد عند، و"البلوني" لعبة كرة القدم. والجملة، خرجت من نادي الهلال، وأصبحت تقال لكل من لا يجيد عملا ما.

كثيرة هي المصطلحات التي تبتكر وتعيش ثم تموت، فاللغة كائن حي يولد ويترعرع ثم يموت، ولا شك أن الليبيين ما زلوا يرددون "صقع عليك"، وبالتأكيد الكثيرون من جيلي يتذكرون جملة: "قالك خالك عل اللوح!" وكلها جمل لها معان ومقاصد، ارتبطت بحادثة ما، وأصبحت مصطلحا له دلالته.

ما أريد قوله هو أن الثناء على الناس، فن وموهبة حقيقية، وهي لو تأملنا من حولنا لوجدنا أن أولئك الذين يجيدون هذا الفن هم الأقرب إلى قلوبنا، أما أولئك الذين لا ينتبهون إلى ذلك، وأيضا كثيرو النقد، والانتقاد، بل ويعتقد بعضهم أن ما يتفوهون به نوع من "خفة الدم"، هم الأبعد عن قلوبنا!

إن سماع المرء لثناء يشبه، إلى حد كبير، متعته بسماع الموسيقى! ولكن للأسف الشديد، مجتمعنا الليبي لا يجيد الثناء، وإن كان يعرف ذلك، بل إن الكثيرين يرون أن الإطراء نوع من التملق، وهذا لا أساس له من الصحة، فالكلمة الطيبة حسنة، بل مفتاح المرء في خلق علاقات إنسانية جيدة. والإنسان لا ينسى مطلقا ثناء مس روحه، ويستاء كثيرا من سوء انتقاء عبارات الثناء من أحمق لا يزن كلماته.

والثناء، في تقديري، موهبة كالغناء يملأ روح المثني عليه بالرضاء والغبطة والسرور. يحكى عن الموسيقار الشهير "توسكاني" أنه ابتهج كثيرا من سيدة، قالت له بعد الانتهاء من عزفه أنه "يبدو أنيقا فاتنا" فقال فيما بعد لأصدقائه أنها أمتعتني كثيرا، فهي لم تقل لي: "إن عزفك رائع، فأنا أعرف ذلك!" ولكنها اختارت جانبا آخر أبهجني جدا. فالإنسان يفرح ويختال بإطراء الآخرين ورضاهم عنه، خصوصا لتلك التي لا ينتبه إليها الإنسان بل قد لا يعرف أنها من مكونات شخصيته.

إجادة الاعتذار، فن ومناسبة للإطراء. يحكى أن نادلا تعثر فسكب شرابا على رسام مشهور كان يعرفه، ومعجبا برسوماته فقال له معتذرا: "الطامة الكبرى أنني أخدم ناسا كثيرين أقل منك شأنا بطريقة جيدة". والذَكر لا يتقبل الإطراء بصفات أنثوية، تماما مثلما تتقبل الأنثى الإطراء بصفات ذكورية.

ولكن إن بلغ الإطراء حد النفاق يصبح أمرا سخيفا، لا يقبله، لا المرء، ولا من يسمعونه. في خمسينيات القرن الماضي، كنا تلاميذ بمدرسة الأمير، كان حينها ناظر المدرسة هو المربي الفاضل الأستاذ عبد العزيز الأبيض، وكان حادا في مواجهة الظلم وكذلك النفاق، ذات يوم عاد إلى المدرسة، ممسكا بديك حي، وحينها كانت مثل هذه الطيور تباع حية، ويبدو أنه وجد من يبيع طيورا أمام مستوصف شارع بغداد القريب من المدرسة، فعرض مثل هذه السلع الريفية من بيض وطيور أمر شائع، أمام الفندق البلدي، وسوق الحوت، ناهيك عن الأسواق، وأمام المستوصفات، وبعض المصالح الحكومية، وفيما كان يرتقي السلم نحو مكتبه، أخذ أحد عمال المدرسة، وهو معروف بتملقه، يتبع الأستاذ عبد العزيز، ويبالغ في الترحيب به متسائلا: "(هضا شنو) يا سي عبد العزيز؟ ما شاء الله، من أين اشتريته؟ ما هذا .. (هضا شنو)؟" وأكثر من التملق، فالتفت الأستاذ عبد العزيز نحوه: "هذا ديك.. ديك يا (قرد) اشتريته من (كريداكس)!". كان "كرايداكس هذا يونانيا عاش - ليِبياً- في بنغازي، وكان هلاليا جدا، يملك محلا ليبيع الفضيات والتحف!

الإطراء، أو الثناء، الجيد هو ذلك الذي يأتي وسط حديث، أو نقاش عفوي كأن تثني على حسن ذوقه في انتقاء تصميم مدخل بيته، أو تنسيق حجرة جلوسه. يقول عالم النفس الأمريكي الشهير George W. Crane"": "إن كلمات الثناء والتقدير، هي أقوى الدوافع للإرادة الخيرة على الأرض".

أما أجمل ما قرأته عن الإطراء من رجل سياسي قال عن زوجته في مناسبة عامة: "إنني لا أحبها لذاتها فقط، ولكن لما أكون عليه أنا حين تكونين بجانبي!" قليلون من يعبرون عن أنفسهم بمثل هذه الكلمات، ولذلك قليلون هم السعداء في حياتهم الزوجية!.