Atwasat

ليبيا بين البيجو والإيفيكو والاستماتة على الانتحار..

محمد طاهر الإثنين 01 فبراير 2021, 09:08 صباحا
محمد طاهر

في حوار جرى بعد سقوط نظام القذافي في عام 2011، أكدت بحماسة لدبلوماسي روسي عمل فترة من الزمن في ليبيا أن مخاوفه بشأن احتمال اشتعال حرب أهلية في ليبيا لا مبرر لها .. وأوضحت له بنبرة يقينية واثقة أنني أعول على خط دفاع قوي لدى الليبيين يتمثل في طبيعة طيبة ممتزجة بواعز ديني قوي.

تمسك الدبلوماسي الروسي بمخاوفه التي عدها مشروعة نتيجة انهيار السلطة واختفاء المؤسسات، وانتشار الأسلحة في مجتمع قبلي لم يتعود لغة الحوار.
أكدت له بالمقابل أن الليبيين لديهم إحساس فطري قوي بالمسؤولية وبالمصلحة، وهم سينحازون في نهاية المطاف إلى صوت العقل والحكمة، خاصة أنهم يتميزون بتدين مرهف، ترسخ في شكل ضمير جمعي يقظ، يميل إلى التسامح وينفر من الغلو ومن العنف، رغم ضعف المشاعر الوطنية والفقر الثقافي ومظاهر التخلف الاجتماعي السائدة. وجهة نظري هذه سقتها عن قناعة .. كنت أظن أن الليبيين لن يخرجوا عن طورهم، ولن يحتكموا إلى السلاح، ولن يفرطوا في السلم الاجتماعي حرصا على أنفسهم، وستساعدهم في ذلك غريزة البقاء وخشية الله بالدرجة الأولى.

هذه القناعة انغرست في وجداني منذ الطفولة، وازدادت التصاقا بي في أحداث كثيرة عايشتها، أهمها واحدة جرت في شبابي المبكر. ذهبت ذات يوم إلى موقف سيارات التاكسي في حيينا قاصدا مركز المدينة في طرابلس.
تقدمت من باب سيارة تاكسي بيجو تقل سبعة ركاب من النوع الشائع قبل أن تغزو شوارع طرابلس سيارات الإيفيكو.

تدافع حشد من الركاب أمام أبواب السيارة، ودفعني أحدهم من الخلف وهو يصيح ويوزع الشتائم من فم مزبد.. تركت له الباب وتنحيت جانبا مفسحا له الطريق. صعد غريمي الذي تبين أنه مسن في ثياب رثة. جلسنا معا في المقعد الخلفي في صمت مطبق. حين وصلنا إلى ميدان السويحلي ترجل جاري قبلي، ودفع إلى السائق بنصف دينار مقابل ركوب شخصين.

التفت إليّ وأخبرني أنه دفع عني ثمن الركوب. مسكني بيدين مرتعشتين معتذرا والدموع تملأ عينيه.. أخبرني في معرض اعتذاره عن ابنه المريض الذي يحاول باستماتة الانتحار وإلقاء نفسه من العمارة، وكيف أنهم ذهبوا به إلى كل مكان، وعرضوه على عدة شيوخ من دون جدوى.

هذا الرجل البسيط في هذه الحادثة، كان يقوده ضمير حي رغم بلواه الكبيرة.

حين اشتدت الأزمات في ليبيا، وأصبح القتل ظاهرة يومية عادية والغزوات شائعة هنا وهناك. وظهر أولئك الذين لا يخجلون من تبرير أي جريمة، بل والافتخار بها، عرفت أن الضمير المغموس في الوجدان الأصيل الذي كنت أعول عليه، صار عملة نادرة، ولم يعد شائعا كما كان في الماضي.