Atwasat

ليلة مصرع الوقار

جمعة بوكليب الخميس 28 يناير 2021, 05:17 صباحا
جمعة بوكليب

حين كنتُ صَبياً، حرصَ أبي، رحمه الله، أن يصحبني معه إلى حضور الحفلات الغنائية والمسرحيات، ومشاهدة مباريات كرة القدم، وكرة السلة، وحفلات الملاكمة. مباريات كرة القدم كانت تقام بالملعب البلدي. ومباريات كرة السلة وحفلات الملاكمة، قبل تشييد المجمع الرياضي، كانت تقام بملعب جانبي صغير، يقع مباشرة خلف المجمع الرياضي الحالي. وقبل تشييد مسرح الكشاف، كانت الحفلات الغنائية تقام مساءً على مســــــــــرحي ســـــينما الحمراء (الهمبرا) وسينما الغزالة، وتستمر حتى ساعة متأخرة من الليل، وتنقل مباشرة مسموعة عبر الأثير، ثم حين بدأ البث التلفزي في الربع الأول من العام 1969، صارت تنقل حيّة ومباشرة، ويتابعها الليبيون في كل المناطق.

كان الفنُّ بتنوعاته، والرياضة باختلافها جزءاً ثابتاً وملحوظاً في تفاصيل حياة طرابلس اليومية، ومتنفّساً لشبابها. وكانت الحفلات الغنائية سمة من سمات تميّزت بها، تستقطب اهتمام ساكنيها من كل الأنحاء.

على مسرحي الحمراء والغزالة، شاهدتُ تلك السنين، رفقة أبي، أعظم ما أنجبت ليبيا من مطربين وعازفين، يشدون بأعذب الأغنيات والألحان. وما زالت تفاصيل صورهم طريّة في ذاكرتي، وهم يؤدون أغانيهم. تلك الأغاني والألحان كنّا نحب ترديدها، وكانت تضيء أفئدتنا، وتبهج أرواحنا، وتهيّج خيالنا، وتبعث السرور في قلوبنا، وفي قلب مدينة صغيرة كانت، وما زالت تعشق الغناء والطرب حتى في زواياها الدينية، وبدأت، وقتذاك، براعم زهورها بالتفتق والتفتح على الدنيا ، قبل أن يدور بها الوقت، ويسلب منها الفرح بالحياة، ويحيل مسارحها إلى مخازن وحوانيت، وشوارعها وميادينها وحدائقها إلى مكبّات قمامة.

كان المسرحان، المذكوران أعلاه، صغيرين، وسعتهما محدودة. مقارنة بما عرفتُ، فيما بعد، من مسارح خارج الحدود. وكان جمهور تلك الحفلات ذكورياً، من أعمار مختلفة، يجلسون بوقارعلى مقاعد، مُنصتين، مُستمتعين بغناء مطربين يعرفونهم ويحبونهم، ويصفقون كثيراً، وبعضهم يطلق صفير إعجاب، لدى انتهاء كل وصلة. الحفلات كانت متشابهة في برامجها، ولا تختلف كثيراً إلاّ بمن كان يحييها من المطربين. أحياناً، يكون المغنّون والعازفون من طرابلس، وأحيانا أخرى من طرابلس ومن بنغازي. ولم أرَ مطلقا أحداً من الحاضرين يتخلى عن وقاره، وينهض من مقعده راقصاً مع الموسيقى، من شدة الطرب.

الوقار الذكوري الليبي رأيته، مرتين أمام عينيّ، يُدهس تحت الأقدام في طرابلس، وفي حفلتين غنائيتين مختلفتين. الأولى كانت على مسرح كلية العلوم، بجامعة طرابلس. وأعتقد أنها كانت في شتاء العام 1975، وأحيتها فرقة الصقور، بقيادة الفنان الموهوب ناصر المزدواي، أطال الله عمره.

كان مسرح كلية العلوم مسرحا جامعياً، صمم ليكون مسرحاً ومدرج محاضرات. وأكبر حجما وسعة من المسرحين السابقين. وفي تلك الليلة، كان مزدحماً أكثر من سعته، بطلاب من الجنسين، ينتمون إلى مختلف الكليات. ولم يمض سوى وقت قصير على بدء الحفلة، حتى وجدتني غارقاً في أمواج متتالية من رقص. كان الطلاب الذكور، قد نهضوا من مقاعدهم، راقصين مع الأنغام، وأكثرهم ترك مقعده، واعتلاه واقفاً، ولم يكن ممكنا لي متابعة الحفل إلا وقوفاً. وصار كل المبنى يموج، يمينا ويساراً، برقص فاجأني، وأذهلني، لم أرّ مثيلاً له في طرابلس من قبل، وكأن الحاضرين من حولي قوم لا أعرفهم، هبطوا من كوكب آخر. وكان المزداوي، تلك الليلة، «لهلوبة» من حيوية، وكأنه «جيمي اندريكس». يتقدم الفرقة قائداً، وعازفاً ومغنّياً، وساحراً. وكانت القيثارة بين يديه تتكلم بفصاحة، بلغة فنّ تحرر فجأة من قيود وأصفاد وقار كان يكبله ويمنعه من الرقص. رأيته يحملها بين يديه عالياً ويقربها من فمه، ثم بأسنانه يحرك أوتارها، فتتأوه نشوة. بعدها يضعها على الأرض ويضرب الأوتار بقدمه فتتوجع صارخة، فأطار صواب الشباب، وكاد يطير حتى بسقف المسرح في الهواء.

المرّة الثانية، كانت بعدها بفترة زمنية قصيرة في مسرح الكشاف. وأعتقد في العام 1977، في حفلة غنائية أحيتها فرقة جيل جيلالة المغربية. لم تكن حفلة غنائية، بل عرس للفن. وإذا كان أفراد جمهور الطلاب، في حفلة كلية العلوم، قد أصابهم فن المزداوي وموسيقاه بعدوى جنون، فإن جمهور تلك الليلة، طار نشوة في سماء عالم آخر لا أجد، في معجمي اللغوي، وصفاً له. بالطبع، كان جمهوراً ذكورياً وبأغلبية شبابية. ورأيت بأم عينيّ شباباَ منهم، وقد تحولوا من شدة الطرب والنشوة، وفي التهاب حمّى إيقاعات الدفوف، إلى ما يشبه مجذوبين في حضرة. لا ينالهم تعبٌ، ولا عطشٌ، كأرواح نورانية هائمة، ترقصُ بكل عنفوان، على أمل أن تتذوق طعم نشوة استثنائية تُعدّ، قبل تلك الليلة، في حكم مستحيل.