Atwasat

الدستور الليبي ومسؤولية الجيل

سالم العوكلي الثلاثاء 26 يناير 2021, 02:32 صباحا
سالم العوكلي

خبر عاجل: "اتّفق الأطراف الليبيون المجتمعون في مصر الأربعاء على إجراء استفتاء حول الدستور قبل الانتخابات المقرر تنظيمها في 24 كانون الأول/ديسمبر 2021." الاتفاق نادرا ما يحصل بين الأطراف الليبية المتصارعة وإن حدث فثمة مصيبة قادمة.

مشروع الدستور المطروح للاستفتاء كارثة بكل معنى الكلمة، وهذا ليس رأيي فقط ولكن رأي الكثير من القانونيين وفقهاء الدستور والكُتّاب الذين عبروا عنه عبر الكتابة في وسائل مختلفة، وعبر مداخلات تلفزيونية أو منشورات على صفحات التواصل.
من الواضح أنه كان يصمم لتمكين أيديولوجية مهيمنة على اللجنة، حتى أنهم لم يعيروا جهد النخبة الليبية التي قامت بترجمة دراسة تقارن بين دساتير العالم وتوفيرها لهم، وتُركت معظم نسخاتها على الطاولة مثلما تُترك كتيبات أسبوع المرور، كما لم يعيروا نتائج الاستطلاعات العلمية التي أجراها مركز البحوث والاستشارة التابع لجامعة بنغازي فيما يخص رغبات شرائح ليبية متعددة عن تصورهم للدستور.

يحيلني هذا العبث إلى المقارنة مع مجهودات إعداد أول دستور ليبي كما وردت بالتفاصيل في كتاب (استقلال ليبيا والأمم المتحدة) حيث يذكر المؤلف أدريان بيلت: "على الرغم من المناقشات السياسية الرئيسة التي استغرقت معظم وقت الجمعية التأسيسية الوطنية الليبية خلال الشهور الأولى من وجودها، لم ينسَ الأعضاء أن واجبها الأساسي كان صياغة الدستور. ولذلك في فترة مبكرة تبكير أربعة ديسمبر 1950، وفي سياق جلستها الثالثة، شكلت الجمعية التأسيسية الوطنية لجنة لهذا الغرض". ورغم الاختلافات التي حدثت حول عدد الممثلين من كل إقليم إلا أنها اتفقت أخيرا "على ستة أعضاء من كل إقليم، ولذلك عُرِفت اللجنة باسم لجنة الثمانية عشر أو لجنة الدستور". ومن خلال هذه اللجنة أختيرت لجنة فرعية (لجنة الستة) عضوين من كل إقليم بالنظر إلى كمية الصياغة المبدئية الضخمة التي يجب إعدادها لدراستها من قبل اللجنة الكاملة التي هي أيضا حددت آليات علاقتها مع الجمعية التأسيسية.

"اجتمعت مجموعة العمل، الاسم الذي أُطلِق على لجنة الستة، في 11 ديسمبر وقررت أن تبدأ عملها أولا بدراسة مسائل توزيع السلطات بين الحكومة الاتحادية المستقبلية وبين حكومات الأقاليم الثلاثة. وكان هذا قرارا في غاية الأهمية. فقد أظهر أن أعضاء مجموعة العمل قد تبنوا الرأي الذي يرى أنه بدلا من الاستمرار في نقاش عقيم حول الاختلاف النظري بين الفيدرالية وبين الوحدة، من الأفضل فحص القضية في إطار نقاط محددة. وبطبيعة الحال، كانت مجموعة العمل تدرك أن مشكلة توزيع السلطات قد أُثيرت من قبل ضمن سياق إعداد كل دستور فيدرالي آخر في العالم".
وهنا يظهر الفارق بين تلك اللجنة المصغرة وأعضاء هيئة الدستور التي شُكِّلت بعد فبراير فيما يخص الجدية في العمل والاطلاع على خبرات الدول الأخرى، في ظل توجهها نحو دولة اتحادية بثلاثة أقاليم فيدرالية سيوضح المؤلف أسباب هذا االخيار في تلك المرحلة، وطلبت مجموعة العمل من سكرتارية بعثة الأمم المتحدة في ليبيا "أن تزودها بترجمة عربية للفصول ذات العلاقة من دساتير الأرجنتين، وأستراليا، والبرازيل، وبورما، وكندا، وجمهورية ألمانيا الفيدرالية، والهند، وأندونيسيا، والمكسيك، وسويسرا، والولايات المتحدة، وفنزويلا، ولاحقا أضيف دستور هولندا واتحاد جنوب أفريقيا. وإضافة إلى ذلك قام المستشار القانوني للوفد البرقاوي عوني الدجاني بتوفير نسخ من دساتير جميع الدول العربية، ومنذ تلك اللحظة فصاعدا، وحتى النصف الثاني من مارس، عقدت مجموعة العمل 16 جلسة، عمليا حولت نفسها إلى فصل دراسي حول القانون الدستوري، حيث يأخذ كل عضو معه إلى منزله كتلة من الوثائق لدراستها.".

أما علاقة بعثة الأمم المتحدة بهذا الاستحقاق فقد كانت في قمة التعاون والنزاهة دون التدخل المباشر كما يروي المؤلف تفاصيلها موثقة، وحتى عندما أدلى بمقترحات تختار منها الجمعية التأسيسية... فقد كان رد فعل الجمعية التأسيسية على تعليقات المفوض متحفظا بشكل قاطع. وعن هذا الرد يقول المؤلف (المفوض): "وعلى الرغم من ذلك كان الحدث درسا للمفوض، الذي تعلم أن عليه أثناء ممارسة وظائفه الاستشارية أن يضع في حسابه أنه سيواجه من حين لآخر رفضا لاتباع مشورته. وفي هذه الحالات، يجب أن لا يشعر بالكدر أو الانزعاج، حتى وإن بدا في أعين الناس أنه فقد ماء وجهه. وكان هذا جزءا من الواجبات العادية لأي مسؤول دولي."

أما وجهة نظره كمسؤول دولي خبير عن طبيعة هذا الاستحقاق لدولة لا يملك سكانها أي ذاكرة سياسية أو دولة وطنية في الماضي، ووفق مسؤوليته عن توفير الظروف المناسبة لبناء دولة مستقلة وموحدة وديمقراطية وفق قرار منظمة الأمم المتحدة ، فاختصرها في : "أما بخصوص طبيعة الدستور، فيجب أن يكون ديمقراطيا. إنه كان يتعامل مع شعب لم يُسمح له باكتساب أي خبرة في الحكم الذاتي، سواء تحت الحكم العثماني أم تحت الحكم الإيطالي ..."

ـيستطرد المؤلف، وفق هذه المعطيات وبعكس تصوره المبدئي عن طبيعة المهمة المكلف بها التي وجد أنها تتناقض مع الواقع الموجود على الأرض: "الآن يجب تأسيس دولة من الأقاليم الثلاثة، قادرة على إدارة أمور شعبها والحفاظ على وجودها في عالم اليوم... ويجب أن تكون أقل مركزية بحسبان البنية الجغرافية والديمغرافية للبلاد؛ سكان قليلون يعيشون في ما يشبه جزر وسط محيط ضخم من الرمال. وأوضاع بهذه الطبيعة كانت غير مواتية لشكل حكم مركزي أوتوقراطي. وأشارت أسباب أخرى إلى نفس الاتجاه. أحدها أن المتعلمين الليبيين، خاصة في طرابلس، متشربون بروح القومية الديمقراطية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر. سبب آخر هو أنه على الرغم من أن الملك المُسمى قد أُعلِن ملكا لأنه كان، لأسباب تاريخية، الشخص الوحيد الذي يعترف به الشعب كله رمزا للوحدة الوطنية، فإنه ما كان سيُقبل حاكما أوتوقراطيا دون معارضة، حتى في موطنه برقة. بصرف النظر عن هذا، وعلى الرغم من الهيبة الشخصية التي كان يتمتع بها، كان لديه كثير من الحكمة والخبرة السياسية التي تمنعه من أن يرغب في أن يحكم بأسلوب أوتوقراطي.".

رغم أن كل هذا يقع في باب وجهة نظر المؤلف القابلة للنقاش، إلا أني أميل لها بشكل كبير، لأنه لو حكم بطريقة أوتوقراطية مثلما فعل ملوك عرب آخرون لما انتهت فترة حكمه بتلك السهولة والسلاسة، ولأن ما جاء بعده ينطبق عليه فعلا الحكم الأوتوقراطي، الذي أعادنا إلى المربع الأول بعد أربعة عقود، حيث يضاف إلى ما سبق أن ذكره المؤلف من عدم اكتساب الشعب للخبرة السياسية أو الديمقراطية في ظل الحكم العثماني والحكم الإيطالي، يضاف إليها حكم القذافي الأوتوقراطي الذي لم يترك خلفه أي خبرة دستورية أو منظمات مدنية فاعلة.

من ناحية، لم يُفتح الباب للحوار المجتمعي كما حدث في تلك السنوات، بل حتى وجهات النظر التي تتعلق بالنظام الفيدرالي، أو حتى ذكر مسمى الأقاليم، كانت تُخوّن فورا، مثلما كانت عرضة للتخوين فترة النظام السابق الذي لم يُخوّن ذكر الأقاليم فقط ولكن حتى ذكر اسم ليبيا لفترات طويلة. ورغم أنه لم يُستفتَ على ذلك الدستور نظرا لمعوقات بنيوية في المجتمع تتعلق بالأمية التي كانت تتجاوز 95% ولصعوبة العمل اللوجستي، إلا أن معظم الشرائح المثقفة أو ذات الفاعلية الاجتماعية والسياسية أو ممثلي الأقليات شاركت في وضع خطوطه العريضة عبر الحوارات قبله وبعده. والآن تتفق الأطراف على استفتاء على دستور لا يصلح لبناء دولة المستقبل لأن كل الأزمة مجمدةٌ فيه وقابلة للانفجار من داخله كما في الدساتير التي صيغت تحت ظروف صراع وضعط طائفي. هذا الدستور من أجل الأطفال والفتية الذين لا يحق لهم الاستفتاء عليه الآن، وسيُحمّلهم أعباء جيل منهك قد يوافق عليه أغلبهم دون حتى أن يقرءوه ، ليس بسبب نقص في الوعي ولكن من منطلق لملمة هذه الدولة المتعثرة وعدم عرقلة بارقات الأمل في بنائها، لكن هذه اللملمة ستدفع ثمنها الأجيال القادمة، خصوصا وأن المواد الأساسية المؤثرة في الحياة وطبيعة القوانين والحريات محصنة وغير قابلة للتعديل، رغم أنه حتى القرآن نفسه كان قابلا للتعديل بالناسخ والمنسوخ وبالمتغيرات فوق الأرض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كل العبارات بين علامتي التنصيص" " من كتاب (استقلال ليبيا ـ حالة تفكيك ممنهج للاستعمار) تأليف: أدريان بيلت، مفوض الأمم المتحدة. ترجمة: محمد زاهي المغيربي. منشورات: مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة بالتعاون مع: كلام للبحوث والإعلام.