Atwasat

يوسف الشريف الساخر.. الساحر

عزة كامل المقهور الإثنين 25 يناير 2021, 09:29 صباحا
عزة كامل المقهور

كلما أتذكر الأستاذ يوسف الشريف تحضرني صورته وهو يبكي بحرقة أمام بيتنا في مأتم والدي.. كانت حرقة الأخ على وفاة أخيه الأكبر، حرقة أكبر من الفقد ذاته وكأنه يبكي جيلا يختفي أثره.. إنها الحرقة على الوطن.

كان يوما شتويا لكنه مشرق، جاء على عجلة بمجرد أن سمع بالخبر.. جاء يبكي وهو يقول "الأستاذ كامل" ويضرب كفا بكف.. كنت أشدَّ بأسا أمامه لأنني لم أر الأستاذ يوسف إلا باسما بشفتين مائلتين، وهو يغطي فمه بكفه ويسخر من كل شيء.. يسخر مني ومن ابنتي ذات الشعر الملتوي ومن لون عينيها الرماديتين.. ومن قامتي القصيرة ومن عملي ومن كل شيء لينجح في جرك سريعا إلى حلبة السخرية تضحك معه وتستعذب سخريته..

أتذكر في إحدى الأمسيات الأدبية في شتاء طرابلس الدافيء، انتحى بي عمي "يوسف" جانبا، وقال لي بصوت هاديء بالكاد يسمع.. "هل مازال في درج "كامل" نسخ من قصصه"، ضحكت من قلبي وكنت أعلم أنه يستدرجني ليسخر.. قلت له، سأكتب قصة الليلة وأهديها إليك وستكون لها علاقة بهذه "الهدرزة" في سقيفة المكان. وبالفعل في اليوم التالي نشرت قصة "هدرزة سقيفة" وأهديتها إليه.

عرفت يوسف الشريف منذ ان ميزت الوجوه الباسمة أمام عيني والقريبة من وجهي، كان يزورنا ببيتنا في شارع خالد بن الوليد بالظهرة، فهو ابن فشلوم حتى النخاع، وحتى وإن ارتد في أصوله إلى مسقط رأسه مدينة ودان المقدسة بهالة من أشرافها، إلا أن طبيعته، بل حتى لونه الخمري وسخريته وبساطته ونظرته واهتزاز جسده وهو يضحك، كلها من عادات أهل فشلوم..

فشلوم الحي الشعبي الذي لم يتغير، الحي الذي يرصد الغرباء إلا من جاء لزيارة أهله فيه أو معارفه.. تدخل فشلوم فتشعر بحي ينتظم سكانه متساوين في صف واحد، ينظرون اليك وهم يعلمون إنك إما مار من الطريق الرئيسي الطويل الضيق أو في زيارة لبيت من بيوته، لكنك لست باقيا فيه.. لكي تكون منهم عليك أن تتبنى نمط حياتهم البسيطة في تفاصيلها والغنية في علاقاتها وإلا...

فابن فشلوم لابد وأن يكون "جدع".. يحترم أصول العيش المشترك لحي شعبي، تتراص بيوته كأنها قطع لعبة التركيب، وتشرع أبوابه، تحول بينها وبين أزقتها المتربة قطع قماش تنسدل منها يقذف بها الريح.. فتعري سقيفته وأهلها المتربعين فيها.. لكن لا أحد يلتفت إلى الداخل. حي مكتظ من أحياء وسط طرابلس.. ولعمري لم أقابل شخصا عاش في فشلوم إلا وعاد إليه زائرا أو مجالسا على رصيفه أو ساكنا فيه من جديد.. ولم أقابل منهم من رحل عن الحي إلا وذكر أنه من أزقة فشلوم الترابية ومن مساكنه "العربية" ذات الأسقف المفتوحة.. تعانق السماء وتتنفس جدرانها غبار الأرض..

ويوسف الشريف الذي رحل عن فشلوم إلى دارة بها حديقة غناء بحي الأندلس، وتولى مناصب في المؤسسة الوطنية للنفط، وسافر إلى بقاع شتى من هذا العالم، ظل ابن فشلوم.. شديد النظافة، معتدا بنفسه، محبا لوطنه، منفتحا على مدنه، عاشقا لألوانه، وساخرا من كل ما حوله..

يتجمع من حوله أدباء وكتاب وشعراء من كل ليبيا، أصغر منه سنا بل منهم من هو في عمر أولاده، يجالسهم ويضاحكهم ويناكفهم ويوجههم ويدافع عنهم ويتشاجر مع قلة منهم ثم سرعان ما يتصافى معهم..

كان صديقا مقربا من الكاتب محمد أحمد الزوي، قضى معه سنوات طويلة.... وفي فترة الستينيات كانا يلازمان والدي، يقطعان عليه خلوته في مكتبه بشارع الاستقلال، ينتزعانه من بين نصوص القانون ومذكراته ويجرانه معهما إلى عالم الكتابة والخيال والإبداع.. كان ينتظرهما لكي يخرجاه من عالم المهنة إلى عالم الأدب.. كان يوسف الشريف شديد الاحترام لوالدي، يقدره ويناقشه في آن واحد، لكنه كثيرا ما ينصت إليه..

حين قرر والدي العودة بقوة لعالم الأدب الذي أحبه وأحب وسطه، هذا العالم الذي يعيش داخله ساكنا أحيانا لكنه سرعان ماينداح كالبركان، ليخرج إبداعا من قصص قصيرة عن مدينته وسكانها وأصحابه وسيرته وسيرتها التي تشابكت.. عن الحي الذي أحب حتى الثمالة "الظهرة" والملاصق لفشلوم... حين قرر العودة في ذلك اليوم الذي كنت معه على متن طائرة أقلتنا من جنيف إلى الرباط.. يفرش الأوراق البيضاء ويكتب بقلم الرصاص سيرة الحي والمدينة والبلد.. يصل الليل بالنهار يكتب بسرعة ويوزع علينا الورق لنقرأ عن جيل لا نعرف عنه شيئا.. حين عاد اختار يوسف الشريف ليعلنها من خلال مقدمة غنية لكتابه محطات/ سيرة شبه ذاتية وبعنوان "عودة الفارس القديم..".. وكأنه به يستدعيه.. يضع سرجه على الحصان، يعاونه على امتطائه، يصيح فيه أن ينطلق ويضرب بكفه عجيزة الحصان... فينطلق بقوة وهو يعلم أن "كامل المقهور" لديه طاقات أدبية هائلة لابد وأن يفرغها على الورق للأجيال المتعاقبة... هكذا عاد والدي وانطلق في ساحة الأدب من جديد.

يقول الشريف في مقدمة كتاب محطات "فالبطل هنا ليس سوى نموذج لجيل قدر له أن يكون أول من يدق أبواب المستقبل، يدقها بعنف، وبقبضتين عاريتين... إنها رحلة.. اتخذت من ضمير المتكلم منطلقا لسياقهاـ غير أن هذا الضمير لا يملي سياقها، بل تمليه شخصيات أخرى تمثل الركيزة الحقيقية للأحداث، وهي شخصيات فاعلة وليست محايدة رغم اختفائها خلف ضمير الغائب".

يبدو أن مهن والدي الشاقة أبعدته لفترة عن قومه، عن أحبائه وأصدقائه، عن الأدب الذي عشقه.. فكان لابد من عودة، وكانت العودة مع كوكبة من أهل الأدب، تقدم إليهم بالشكر في مقدمة كتابه...

ذات يوم، أتذكره بتفاصيله كاليوم، في مكتبنا للمحاماة حين كان موقعه في ميدان الجزائر بالدور الثالث، يطل على مبنى بلدية طرابلس بدرجاته الرخامية وعلى يمينه الكاتدرائية التي تحولت إلى جامع.. كانت طرابلس قد نهضت ببطء من غفوة طويلة أمم فيها العمل الخاص ومن بينه مهنة المحاماة.. عادت مهنة المحاماة خاصة وحرة كما هي دوما وكنت مع والدي قد بدأنا التأسيس والانطلاق بخطى وئيدة لـ "مكتب المقهور وشركاه".

رن جرس الباب ولمحت من غرفة مكتبي رجلا يرتدي سروالا رماديا وقميصا أبيض ناصعا، تصحبه فتاة في مقتبل العمر يدخلان مباشرة إلى مكتب والدي.. وفجأة سمعت صوت أبي جذلا عاليا مرحبا وهو يقول "يوسف مش معقول؟"..
تذكرت بعض ملامحه حين ناداني أبي للسلام عليه، احتضنني كابنته وهو يصف لي ذكرياته في بيتنا، شقاوتي في صغري.. والأهم أن ابنته منار التحقت بالعمل في مكتبنا، لتصبح عضوا فعالا فيه، مكثت حوالي الخمس سنوات، ربطتنا المهنة وتلك العلاقة القيّمة في معناها، المتأصلة ما بين والدينا.. فتحت لي مكتبة عمي يوسف فقرأت الأدب الروسي وأحببت تولستوي، وفتحت لها قلبي فكنت بمثابة أخت كبرى وهي ابنة وحيدة، وكنت أشرف عليها في عملها... غالبا ما استعان بها والدي لمراجعة طباعة ما يكتبه من قصص، وكأنه يستعين بعيني أبيها يوسف الشريف..

عمل يوسف الشريف في مجال الإعلام و الصحافة وعين مديرا للإذاعة الليبية في عام 1969، وتولى رئاسة تحرير مجلة الفصول الأربعة، وهي مجلة تعنى بالأدب و صيتها بلغ خارج الحدود..كان والدي يداوم على اقتنائها. ثم قرر الشريف أن يلج إلى عالم جديد لا يعيره الأدباء العرب اهتماما.. ألا وهو أدب الطفل، فألف القصص، وأعد المعاجم لهم، منها "المختار في اللغة والعلوم"، وبلغت مؤلفاته لهم المائة عنوان.. لم يكن أحفاده قد وصلوا بعد.. لكنهم وقد حلو في مضاربه، فلابد وأن "جدو" اليوم يقرأ لهم ما كتب..

" سقطت حبة القمح من سنبلتها، وسقطت قطرة الماء من سحابتها، قالت قطرة الماء لحبة القمح، تعالي ننام في فراش واحد. فتدحرجت حبة القمح حتى عانقت قطرة الماء. وناما معا. بعد يوم أو يومين.. بعد شهر أو شهرين، صارت حبة القمح سنبلة".
" خرج العصفور من بين جناحي أمه، وطار فوق الغابة الكبيرة، عندما تعب، حط على ضفة نهر صغير، جاء طير كبير وقال هذا النهر لي، فطار حتى وجد نهرا، فهبط وجلس على ضفة النهر الكبير، جاء طير كبير، وقال هذا النهر لي، عاد العصفور إلى جناح أمه، وقال: هذه امي، وهذا الجناح لي".

وأسس مكتبة متواضعة للطفل تحت شعار "من أجل عقل حر"، يشجع فيها على القراءة ويوزع الكتب مجانا للأطفال.

وكان أجمل ما كتب على الإطلاق بعد مجموعته القصصية "الجدار" التي نال عليها جائزة الدولة التقديرية في عام 1965، ومجموعته الأقدام العارية، هو سيرته الذاتية "الأيام الجنوبية / سيرة) التي امتزج فيها الألم بشظف الحياة.. كان صادقا بطباع أهل فشلوم.. لم يخف العوز والحاجة والمرض والخوف.. عرج على الجنوب الذي كان ملاذا لأهله القاطنين طرابلس كلما ضاقت بهم الحياة فيها.. وأجمل مقطع أثر فيّ، أراه بقلبي الذي يعتصر وهو يلتقط كلماته الحزينة.. تلك الرحلة من طرابلس إلى فزان ليعمل معلما للمرحلة الابتدائية وهو لم يبلغ سن الرشد.. يجلس فوق البضائع في صندوق الشاحنة العاري مرتديا معطفا أكبر من حجمه وحذاءً قديما.. يقول الشريف في ذلك المقطع المؤثر...

" عندما لوح أبي بيده مودعا، قال لي قلبي أني لن أراه مرة أخرى، واريت وجهي وبكيت، إلى أين تأخذني الأيام، لماذا في لحظات الوداع يفيض الحب العظيم، فنتذكر كل ما هو صغير وعرضي وتافه، ونرى فيه ملاذا لكل ما هو جميل ورائع في حياتنا؟ في تلك اللحظة أخذتني شيخوخة مبكرة فاسترجعت وجوه أصدقائي وجها فوجها، واسترجعت وجه حبيبة طفولتي واخترق قلبي بالحنين".

وفي مقطع آخر "لم أجد لجسدي مكانا فوق البضائع، كانت محمية بغطاء سميك ومشدودة بحبال قوية تتقاطع في اتجاهات متعددة استطعت أن أفسح لجسدي فضاء بين البضائع والضلع الأخير من صندوق الشاحنة، رغم صغر حجمي إلا أنني لم أستطع أن أتمدد، ثنيت ساقي وشبكت ذراعي على صدري وأخفيت رأسي في ياقة المعطف العسكري القديم، اشتراه لي أبي، وجدت فيه غطاء يحميني من الغبار وموجات الهواء المعاكسة لاتجاه الشاحنة".

وكان هذا ما يصنع الرجال في بلادي.. قسوة ظروف العيش وشح المشاعر وصلابة العود والتشبث بوعد لمستقبل آت، كما وعد حبة اللوز الأخضر الصلبة بقلب أبيض رطب.

أتقن الشريف اللغة الإنجليزية، تمرس في الأدب والصحافة، وتعفف عن المناصب حين سعت إليه، وولج عالم أدب الطفل، التهم الكتب بأنواعها ليصبح مثقفا من الطراز الرفيع.. واليوم يواظب على المشاركة في منصات التواصل الاجتماعي بإدراجاته الفيسبوكية وتغريداته المكتنزة في معانيها كفطائر "سفنز" الصباح في فشلوم، يحلم عمي "يوسف الشريف" لهذا الوطن أن يكون "فشلوم" كبيرا في تماسكه وتراصه ومحبته وبساطة أهله، يتمنى أن لا يبكيه أكثر..