Atwasat

الروحانية السياسية

رافد علي الجمعة 22 يناير 2021, 11:46 مساء
رافد علي

كان لاندلاع الثورة الإيرانية أن أربكت حينها أي محلل سياسي أو مراقب ومطلع، لأنها جمعت التيار الإسلامي مع اليساريين ضد الشاه في مفارقة تاريخية لازالت محل دهشة وتجاذب. الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو كان من الذين أغرتهم تطورات الحالة الثورية في إيران حينها، فذهب إلى هناك لصالح الصحيفة الإيطالية الشهيرة كوريري ديلاسيرا في أوج الاضطرابات التي سبقت سقوط العرش.

كتابات فوكو عن إيران وثورتها بتلك الفترة لم تلق ترحاباً من قبل المهتمين بالشأن الإيراني بفرنسا، رغم أن فوكو اعترف منذ البداية في تلك المقالات بأنه ليس مختصاً بالشأن الإيراني، وليست لديه معرفة بإيران، علاوة على أنه ليس صحافياً. فقد انتقدت مقالاته بشدة بفرنسا، ولم تلقَ آراء فوكو ذات الحدية في نقدها حينما نشرت في الولايات المتحدة، وربما يرجع ذلك لحالة الانتقائية فيما نشر منها، حسبما يرى بعض الكتاب. من أبرز نقاد كتابات فوكو على الثورة الإيرانية المستشرق الفرنسي الشهير ماكسيم رودنسون الذي رد على فوكو في عدد من المقالات أثناء الثورة وبعدها.

بغض النظر عن الانتقادات التي وجهت لفوكو أنه نه كان منجراً للطوباوية الثورية، وعدم إدراكه للإسلام السياسي كان وراء حماسته للثورة في طهران، إلا أنه من ضمن الأشياء التي يمكن الوقوف عندها في مقالات فوكو تلك هو تعبيره "الروحانية السياسية" الذي جاء على ذكره في عدد من المرات بمقالاته تلك، دون أن يقف عند شرحها أو تفكيكها كفيلسوف، وكناقد لعصر الأنوار في القارة الأوربية، إلا أن الاطلاع على مجمل تلك المقالات، والتي ترجمت لعدة لغات، تمنح القارئ نظرة تسمح بتكوين فكرة عما كان يدور في وعيه حول ذاك المصطلح.

كان فوكو في رحلتيه لإيران بسبتمبر ونوفمبر عام 1978 قد كون انطباعاً بأن الإيرانيين ضمن حالة الاضطرابات التي عاشوها، والتي انتهت بسقوط الشاه بأن ما يجري هو "دين ضد استبداد" سلطان فشلت سياسته التحديثية لبلاده، وانغمس في الفساد والاستبداد، فالشعب الإيراني بكل أطياف الناس التي قابلها، ومن مختلف الشرائح والاتجاهات، لم يكونوا قابلين لا باستمرار الشاه، ولا بفساده المستشري، ولا بسياسة القمع والاستبداد عبر جهاز السافاك الذي يصفه فوكو بـ "المرعب". فالإيرانيون، كما يري فوكو، قد كونوا هذا الرفض انطلاقاً من وعيهم النابع من مذهبهم الشيعي، فالأفكار الأخرى تظل مستوردة، ولم تحقق لها مكاناً بارزاً في أذهان الناس، مقارنة مع ما حققه الخميني، "الرجل الأعزل"، والذي يعيش في المنفي منذ سنوات عديدة. فالأحزاب المتشكلة حديثاً نسبياً لازالت بعيدة عن ملامسة الناس ضمن مشروع آل بهلوي، المبني على (القومية والعلمانية والتحديث)، والتي لم يتحقق منها جميعاً أي شئ حقيقي علي الأرض بسبب انحشار إيران بين الروس والإنجليز والأمريكان وتنافسهم على إيران النفط والاستراتيجيات، علي مدار حروب كبرى عالمية، متبوعة بحرب باردة جعلت من إيران تسلك نهج التبعية كما يرى المعارضون في طهران حينها، وكما يروج الخميني في خطاباته المسربة للعامة في البلاد في أشرطة الكاسيت حينها. فالملالي في نظر فوكو، كمؤسسة شيعية، "ليست قوة ثورية، ولا يمكن أن يكونوا ثواراً حتي بالمعني الشعبوي"، فالثوار الحقيقيون كانوا مضطرين لمجاراة المد الخميني الموجود كروحانية قائمة بين الناس، تناقض الشاه وسياسته، فالتطلعات الأخرى عند التيارات المختلفة "لم تجد ألفاظها للتعبير عن نفسها بكونها الصورة التي يأخذها النضال السياسي عندما يعبئ فئات الشعب". فالقائم في طهران حينها، عند فوكو، "لا يمكن اعتباره إيديولوجيا منتشرة" ببن صفوف الشعب، حسبما جاء بمقالته "الدين ضد الشاه".

فهذه الروحانية السياسية التمسها فوكو عند غير الملالي والمتدينين، ففي حديثه مع بعض المعارضين الذين التقاهم سراً في طهران عرف منهم أنهم يركبون موجة الخميني، خصوصاً عندما رفع سقف المطالب بعدم شرعية الشاه ونظامه بسبب سياسة الفساد والتبعية، كون أن الخميني يقوي المعارضة أمام الشاه والأمريكان، فالخميني - حينها- لا يمثل حزباً سياسياً، فهو يقارع البلاط بلا برنامج سياسي، علاوة على أنه بالمنفي. ويقول فوكو بأن هؤلاء المعارضين يؤكدون بأنه بمجرد سقوط الديكتاتورية ستعود السياسة القويمة عن طريق رجوع الأحزاب المعطلة منذ الستينيات، فـ "الخميني يبقي مجرد علم" في رأيهم.

فوكو لم يقتنع بهكذا طرح براجماتيكي، إذ يوضح أن هتافات الجموع بالإسلام، أو حتي رفع شعار "الخميني ملكاً" كانت من "الأشياء التي تغاضى عنها خبراء جيدون في الغرب"، رغم وضوح هذه الشعارات لهذا التيار، فـ "الرجل العجوز" عند فوكو كان يحقق "نجاحاً سحرياً" في وسط الجموع بشعاراته الدينية، ويعبر فوكو عن ضجره ممن يردد في الغرب إزاء تطورات الأحداث في إيران "إنهم قد عرفوا ما لا يرغب فيه الإيرانيون، ولكن هل هم يعرفون فيما يرغبون؟".

الروحانية السياسية التي جمعت أهل إيران، الدولة متعددة الشرائع، يميل لها فوكو باعتبارها من المفقودات والمنسيات كإمكانيات لخلق إرادة سياسية في عصر النهضة الأوربية، فلهذا لا يجد فوكو، كما يكتب في مقالته "بما يحلم الإيرانيون"، حرجاً في الحديث عن الحكم الإسلامي باعتباره "فكرة" أو "نموذجاً". ففي رد له على أحد الانتقادات الموجهة لإحدى مقالاته والمنشورة في جريدة الليموند الشهيرة، يوضح أن الروحانية السياسية التي أشار إليها لا تعني الحكم الإسلامي كشعار، ولكنها كانت "محاولة للوصول للمضمون الذي أعطي لهذا اللفظ"، وللتعرف على "القوة التي كانت تحركه" كشعار، فلا يخفي ذات الفيلسوف أن مشكلة الإسلام كقوة سياسية "مشكلة جوهرية بالنسبة إلى عصرنا، وفي قادم السنوات..."

لقد وجد فوكو لفكرته الروحانية السياسية بعداً في نفسية بعض من طياري الخطوط الإيرانية حينها عندما زارهم على هامش الإضراب العام بالبلاد، في شققهم العصرية الفاخرة، فقد أكدوا له أنهم ليسوا متدينين بشكل خاص، لكن "ثقتهم وضعوها في الخميني دون سواه". نشر فوكو فحوي هذه الفكرة في مقالته "الثورة الإيرانية تنتشر علي الأشرطة المسجلة".

برأيي المتواضع أن الروحانية السياسية عند فوكو تأتي كونها البديل في ظل الإضراب العام وحالة شبه الفراغ السياسي، المتجلي أمام ما يحققه الخميني حينها من منفاه عبر خطبه المسربة في أشرطة الكاسيت، ويقوم تجار البازار بتوزيعها لأجل تكريس زعزعة الشاه المدجج بالعسكرتاريا الأشد بالشرق الأوسط حينها. لقد فشلت الوجوه السياسية المستهلكة في إيران للوصول للعامة، كرجال السافاك، أو امبني الدبلوماسي الشهير، أو ايامي رجل صناعة السيارات بالبلاد، جنباً إلى جنب رجالات الأحزاب الذين ظلوا في حالة عطالة مأسوفة، فلم يكن أمام الشاه إلا جلب العسكر إلي صفه في مواجهة شعبه وإضرابه العام. لقد كانت الروحانية السياسية مفارقة في الشعور الإيراني، إذ شكلت إرادة جماعية موحدة، فهي "لم تكن ظاهرة اجتماعية غامضة أو عاطفة قليلة الوعي" كما يصفها كاتبنا الفيلسوف في مقالته "جنون إيران" بل لقد كانت إرادة احتجاج كونت وحدة رائعة لشعب مشتت على هضبتين صحراويتين. إنها الإرادة التي يعبر عنها الطبيب في طهران، والملا في الأرياف، وعامل البترول، وموظف البريد، والطالبة المحجبة.

كل هذا لمسه فوكو في يومياته مع شعب لا يعرفه، لكنه أحس به وعايشه، لكنه لم يخف أن هذه الروحانية السياسية شئ خطير حين الاستفراد بها لأن "الإسلام برميل ممتلئ بالبارود".