Atwasat

حكم (الحاكم) يرفع الخلاف

الهادي بوحمرة الأربعاء 20 يناير 2021, 06:18 مساء
الهادي بوحمرة

يجمع كل خصم في الدعوى ما يستطيع من آراء، وأسانيد، وحجج، وأدلة، وينتهي الأمر إلى حكمٍ، يخضع له الجميع، ويُرفع الخلاف. يتقدم من تتوافر فيه شروط الترشح، يتدافعون بينهم، يحاول كل منهم التمايز؛ ليصل الأمر إلى فرز للأصوات، ويُرفع الخلاف. يقدم أطراف البرلمان مطالبهم وبرامجهم وتصوراتهم ودفاعهم عنها، يختتم النقاش بالتصويت على المشروع؛ ليتحول إلى قانونٍ نافذٍ يخضع له الجميع، ويُرفع الخلاف.. وفيما هو سابق لكل ذلك، لكل طرف وحزب وفئة وتوجه تصوراته لبناء الدولة ونظام الحكم فيها، وبكلمة الشعب في استفتاء عام توضع مسطرة تقف عندها السلطات، وتؤطر لأساس رفع كل خلاف.

(حكم الحاكم يرفع الخلاف) قاعدة فقهية غايتها إنهاء السجال، وضمان السلام، والانتهاء إلى الوئام. فمتى كانت المنازعة، وتعارضت المصلحة، فإنه يجب الوصول إلى حكم ينهي المخاصمة.

هذه القاعدة؛ وإن كان هناك اختلاف في الفقه الإسلامي من حيث نطاق سريانها؛ هي في الأنظمة الدستورية من ركائز انتظامها، وضرورة من ضرورات استمرارها، إذ إن اختلال إنفاذها فيها بداية لانحلال مؤسساتها، وتصادم مكوناتها. وإذا كان القاضي هو الحاكم في المنازعات، فإن الشعب هو الحاكم في الاستفتاءات والانتخابات، والأغلبية المنتخبة هي الحاكم في مجال صناعة التشريعات.

وكما أن رفض حكم القاضي رفضٌ لرفع الخلاف، فإن عدم القبول بالاحتكام إلى الشعب، أو رفض ما انتهى إليه هو- أيضا- رفضٌ لرفع الخلاف. وما لم يُرفع الخلاف، فإنه يظل قائما ينخر في البلاد والعباد، فإما أن يفضي إلى العبث والفوضى، أو إلى التسلط والاستبداد، والذي قد يسبقه عذاب، ويليه عذاب، ولا يستمر إلا والناس في عذاب.

وللوقاية من مثل هذا، كان افتراض الحقيقة في الحكم الرافع للخلاف لازما من لوازم الأمن والسلم والاستقرار، فالحكم القضائي يمكن مواجهته بطرق الطعن، وعند استنفادها يتحول إلى عنوان للحقيقة؛ حتى ولو لم يكن في الواقع حقيقة، لأنه من غير هذا الافتراض تتأبد المنازعات، وتغيب الجزاءات، وتختل الحقوق والحريات. وافتراض الصواب في رأي أغلبية الناخبين أو المصوتين أو المقترعين هو- أيضا- ثابتٌ بالضرورة؛ للحفاظ على السلام، وتجنب الانسداد. فكما أن حكم القاضي يُعيّن الجاني والمجني عليه، والمحكوم له والمحكوم عليه، وليس أمام مختلف الخصوم إلا الامتثال، فإن حكم ممثلي الشعب يحدد القانون الواجب النفاذ، وعلى المعارضين- مهما كانت اعتراضاتهم- الانقياد، وحكم الشعب في الانتخابات والاستفتاءات صحيحٌ وقاطع، ويجب أن يمضي في مواجهة من أدلى بـ (نعم)، أو من عبر بـ (لا)، أو من اختار الامتناع. ومن المناسب التذكير هنا بأنه لا مقاربة بين افتراض الصواب والحقيقة والعصمة والتقديس، لا من حيث المفهوم، ولا من حيث المقصد والدلالة، فما الأول إلا مجرد مقدمة موضوعةٌ، يقر الجميع بحسناتها؛ مع تسليمهم بعلّاتها.

ومتى كان الأمر كذلك، فليس هناك أشد فتكا بالبلاد والعباد من إثارة الشبهات، ومن بث الشك وزرع الريبة في الأحكام الرافعة للخلاف دون حمل الدليل، ودون اتباع السبيل الآمن المقنن لنقضها، ذلك أن لا فتنة أشد من فتنة تتخذ من أحكام رفع الخلاف متكأ لها، فالذي يقرر من تلقاء نفسه بطلانها، أو يجزم بانعدامها، من أجل التنصل من التزامها، إنما يدفع الناس لأن يكون أمرهم فوضى بينهم، وهو ما قد يُوهن أكثر الأنظمة رسوخا، ويهوي بأشد الدول تماسكا. فمن أهم أصول نظام الحكم القائم على صناديق الانتخاب والاقتراع القبول بنتائجها، وسلاسة اللجو للقضاء والخضوع لأحكامه؛ في حال نشوء اعتراضات عليها.

هذه الافتراضات للحقيقة والصواب؛ حتى مع عوارها ومجافاتها للواقع؛ تظل أقل الخيارات سوءا، فهي أهم القواعد التي تمكّن الأنظمة المزدهرة في العالم من العمل بانتظام واضطراد. فاستنادا إليها؛ من الممكن أن يتعاقب داخل نفس النظام الصواب والخطأ، وأن يُنسخ بالأغلبية قرار الأغلبية، بدل أن يُزال بالسيف حكم السيف، وأن يُكتب بالحبر بدل الكتابة بالدم، وبها يتحقق التداول السلمي على مقاليد الأمور، وتتبادل الأطراف عباءة السلطة ورداء المعارضة من نفس خزانة النظام؛ دون انقلاب، أو تفكيك، أو تدمير. الأمر الذي يعني أن رفض هذه (الافتراضات القواعد) هو رفض لدولة المؤسسات والحق والقانون، وجنوح نحو دولة التسلط والاستبداد.