Atwasat

النادمون!!

صالح الحاراتي الأربعاء 20 يناير 2021, 05:27 صباحا
صالح الحاراتي

حالة السلم الأهلى "الخادع" التى تسود فى مراحل الاستبداد والتى "يحن" لها البعض!! هى حالة انفعالية عاطفية لا يمكن تسويغها عقليا. ولذا فإن حالة الندم التى تنتاب البعض هى حالة رد فعل متسرع، كما أن دعوة "ياريت اللى كان ماكان" دعوة غير صحيحة، وما حدث كان ﻻبد له أن يحدث.. كل ما في الأمر أننا لم نحسن التعامل مع الواقع الجديد، واستقر أمرنا على الفوضى المعاشة .

نعم، نحن نعيش واقعا مؤلما، ومستقبلا ضبابىا مجهولا، ولا يمكن إنكار ذلك أو تجميله، وأظن أن ذلك الحال هو ما دفع بالكثيرين إلى الندم والارتداد للماضي، إما ماضى السلف البعيد أو ماضى الملكية أو الماضى الجماهيرى، أي إلى ما قبل الثورة، ليستعيدوا بحسرة معلنة نمط حياتهم الماضية، الذي يتراءى لهم كحالة مثالية، قياساً على معيار "العشر فردات خبزة بربع دينار"، وأننا كنا ننعم بـ "الأمن" والأمان، والآن بُلينا بمن هم أكثر بطشاً من النظام السابق - إذ تسلطت علينا داعش وأخواتها - فى فترة معينة ثم تلتها أفعال مجموعات كبيرة من القتلة المجرمين واللصوص، فما كان أغنانا عن هذا التغيير !
هذا الحنين إلى الاستقرار، حتى ولو كان استقرارا قهريا.. يولد الندم..

رغم أن الندم مفهوم سلبى مبني على أساس المقارنة، وينبع من مقارنة خيارات نشأت في سياق أصلي تم فيه اتخاذ قرارٍ ما، ولكن ليس كل الندم ذا صيغة واحدة.. فالنادمون أنواع، هناك مثلا من انضموا إلى الثورة لمجرد شهوة المشاركة، أو تعويلاً على سقوط سريع للنظام يجلب معه تحسن الأوضاع بشكل تلقائي ودراماتيكى، ولكن عندما طالت القصة ولم يحدث ما تأملوه، أخذوا يلهجون بالثناء على الماضي وبالندم على ما ضاع ويتباكون حنيناً لاسترداد نمط الحياة السابق، وإن كان به قمع وكبت واستغلال واستئثار وإقصاء وفساد.. لأن الواقع الحالي أكثر سوادا، وحجتهم تقول: كان لدينا "ما يشبه الوطن" وكنا نستطيع طالما لم نعترض على أهل السلطة أن نكون "ما يشبه المواطنين". يقولون: "كنا نستطيع أن نعيش آمنين طالما ألغينا كلمة "لا" من قاموسنا، وراقبنا مواقفنا وتصرفاتنا وأحاديثنا، ولقد اكتسبنا الخبرات التي خزناها في لا وعينا لأكثر من أربعين عاماً. لقد كان الرعب المسيطر علينا من قِبَل من يوفر لنا الأمن والأمان هو ما يجعلنا آمنين .

يعتقد من يلقون اللوم على الثورة فيما آلت إليه الأوضاع اليوم، أن حياتهم كانت ستستمر على تلك الشاكلة من الاستقرار لولا قيام الثورة، ولذلك فهم يحملونها مسؤولية ما آلت إليه الأحوال، متناسين حجم المتغيرات الظاهر منها والباطن، الذي كان يحدث فى منطقتنا من تغيرات وفي بلادنا خصوصاً بعد استدعاء فكرة التوريث وصراع الأبناء ونتائجه..

وكان على الناس، إن أرادوا الأمان ان ينسوا شيئا اسمه القانون أو الدستور، والمواطنة وشيء اسمه الحق والعدالة والقيم، وكل من ينتصر لتلك المسميات دونه التهميش أو الإقصاء أو الاعتقال، وبالطبع كل ذلك هو نتاج استمرار نهج النظرية العالمية "للقائد المفكر" الذى وقف بالمرصاد لمحاولة الإصلاح التى كان عنوانها " ليبيا الغد".

لم ينتبه النادمون إلى سبب جوهري ساهم فى حالة الفوضى القائمة بعد التغير الذى حدث، يتمثل فى (أن تغيير فبراير كان ولازال تغييرا ظاهريا وشكليا حتى الآن، ويلامس القشور وليس الجوهر).. فثقافة الجمهرة الموروثة من الماضى لا زالت تفعل فعلها.. ولا زال الكثير من الناس يعيشون امتدادا لعصر الجماهير، نفس الممارسات والسلوكيات، ولا زال الخطاب السياسي يعج بمفردات التخوين، وأهل الوصاية، و"بالمقدس" يقودون حملات التبرير!... وجهويون بدائيون يظنون النجاح نجاح قبيلتهم او مدينتهم !
بالمختصر نعيش الآن حالة رجوع إلى الخلف فى وطن ظن أهله أن الثورة ستأخذهم إلى الأمام، فقرر الكثير من الناس نفسيًا "وبحكم الواقع البائس" العودة إلى الوهم والبحث عن البطل المخلص والزعيم المنقذ و (الندم على التغيير!) .

الكل دون أن يدري قرر العودة إلى الوراء والعيش تحت عباءة الماضى، بعضهم ذهب إليها دون وعي، وآخرون ذهبوا إليها اشتياقًا، بينما فئة ثالثة تذهب إليها متعمدة تحقيقًا لمصالح، ورغبة فى إعادة المشهد القديم، ويتناسون حقيقة تقول أن (سيئات الموجودين لاتمحو ذنوب السابقين). وأنه بالرغم من كل المنغصات والتجاوزات وشيء وفير من الفوضى القائمة، تبقى الحرية والإحساس بالكرامة أسمى وأروع.. وأن عقارب الساعة لن تعود للوراء أبدا… وحتما سنكون فى المستقبل أحسن وأفضل حالا .