Atwasat

مثل رحلة المعري.. مثل رحلة دانتي

سالم الكبتي الأربعاء 20 يناير 2021, 05:24 صباحا
سالم الكبتي

رحلة مفعمة بتفاصيل عديدة بدأت عام 1846 لتنتهي بعد قرن عام 1946. حياة بالطول والعرض. بحلاوة الأيام ومرارتها. عهود.. الترك. الطليان. الإدارة البريطانية. الحروب والمجاعات والفتن. الشعر والفجاج والأبعاد والجوبات. تجربة كبيرة ومتعددة الأشكال والجوانب. حركة ضاجة بالعنفوان ومواجهة الأعوام بكل لحظاتها الصغيرة والعظيمة.

علي بوفلاقه (بتشديد اللام ألف) اسم تردده النواحي وكل الأماكن. تهتف به التلال والوديان البعيدة. هو علي حمد إبعيص المغربي. بوفلاقة شهرته.. غلبت عليه لجرأته وصراحته. كان يقسم ببندقيته.. وحق ها الفلاقية. صار على بوفلاقة.
الحياة.. والتنقل. هذا الذي شهدت الفيافي والواحات والنجوع وطأته. فارع الطول. يعتنى بهندامه ويمشط لحيته ويصبغها بالحناء ويتهيأ لمجالس الشعر بتلك الصورة تقديرا للكلمة والمعنى والحروف. لم تتوقف رحلاته في تلك الفيافي لكنها استمرت في مطاردة الودان وصيده بطريقة فائقة.

وتلك إجدابيا. مركز الإمارة. وملتقى القوافل والدروب القادمة من الشرق والجنوب والغرب. والسوق الذي يعمر فى الأمسيات به وبرفيقه حسن لقطع الفاخري.. الشاعر البارع في الغزل والهجاء. وتدور بينهما المساجلات والمناوشات الشعرية اللطيفة والظريفة. والصدى يتردد قويا فى الجنبات ويصل إلى حواف الصحراء. وتلك جالو. مواسم التمر. والذهاب والإياب والحكايا. وعبدالله العباسي هناك. والقول يتردد ليقال من ذا قاله. شعراء كبار. مساجلات وملاحم. وتاريخ يروى. تاريخ مضى وضاع لم تدركه الأجيال. لم تحافظ عليه وظلت تبكيه كالنساء تراثا ذهب فى البعيد.

والرحلة الأشهر للشاعر بدأها بالقول: (مشيت بالكدر شط يومين .. ويومين بطلن إرجالي). تجول وتنقل ونام بين قبرين وسط الصحراء. ومن هناك امتدت الرحلة إلى الأعلى. النعيم والجحيم. وصف يطاول رحلة المعري ودانتي. وصور تتدفق. الخيال الشعبي العظيم تمثل في رحلة بوفلاقه. مشى وتخيل وعاد. مدح الكرام. وهجا البخال. وراْى مواضعهم فى العلالي. بعضهم في الفراديس والآخر في النيران. لوحة عجيبة ينطق بها شعر بوفلاقة، والشعر أعذبه الجميل المنطلق بعفوية.. وليس الكذوب كما يقال!!
وتعددت المساجلات مع مصطفى اعبيد الهوني وحمد هليل ومحمد الشامخ المغربي وقنفود موسى الميجنه والمهدى بوزريده الورفلي .. وغيرهم.

ذلك بوفلاقة. الشاعر الفارع الطول. القصيدة السيارة بلا توقف. يواجه الجنرال ماليتي بكل شجاعة أمام الناس: (ياعون فى دنياه ياماليتي ... من جاك فى ثمان ألاف لك متوتي). كان الجنرال يمتليء إلى حافته غطرسة وعجرفة وظلمأ وصلافة.. وكل شئ حقير. والواشون المتربصون ينقلون إلى الجنرال في مكتبه المهيب. يغير بوفلاقة القول بذكاء:
(ماهناك شي شوخه مع ماليتي ........ شوخة المشايخ كيف شوخة جدتي)
حسن التخلص بذكاء الشعراء وفطرتهم العفوية. بوفلاقة الذكي. البعيد النظر. الفاهم للاْمور.

وفي آواخر الرحلة الطويلة بعد التجوال والقنص وقطعان الودان ومرأى التلال والشمس الناهضة في الصباح ثم الآفلة في الغروب وكل الذكريات تطلع من أعماقه صيحة فيها يأس من المعاناة والمرض: (لاوذن تسمع لاعيون يحقن .......... وليدين تمن ع الوطا يتقن).

وشعور بدنو الأجل. الحقيقة الأزلية الخالدة: (التربة صاحبها مداح .. تمشيبه من بر لبر). هكذا يرحل الشعراء. لكن تبقى قصائدهم.

وهاهي الرحلة تكاملت. الشعر يردده السوق وقطيع الودان ومناخ الإبل قرب المعاطن. وإجدابيا وجالو والكفرة. الفجاج والفيافي. مشيت بالكدر شط يومين. مثل المعري. مثل دانتي. فمن يغوص في الأعماق عندنا ويبحث في هذه الأمور؟
بوفلاقة ملحمة شعرية وحدها. لكن الأجيال الجديدة تظل بعيدة أيضا وحدها عن تاريخها وتراثها. الأجيال لا تعرف الملاحم القديمة ولم تسمع بها. ولاتعرها اهتمامها. لديها مايكفيها من الملاحم الأخرى القادمة من وراء السراب الباهت!!