Atwasat

أدب الكوارث.. صورة تتجدد

سالم الكبتي الأربعاء 13 يناير 2021, 01:21 صباحا
سالم الكبتي

موسم المطر لكنه بدون مطر. غيمات في الأفق تلوح بلا مطر. الجفاف والريح الجنوبية في عز الشتاء. وأنا وحيد في غرفتي، لكن معي عناقيد الغضب. أعيد قراءتها في هذا الليل والشتاء. إنها تقول في متنها:

(الطريق 66 هو طريق الناس تلك الأيام في الهروب. لجأوا على وجه السرعة وهم يمتلئون خوفا من الغبار والأرض التي أخذت تضيق بهم. من هدير الجرارات والملكية المنكمشة. من غزو الصحراء البطئ للشمال الأمريكي الممتد البطاح والسهول على مد العين. من دوامات الريح التي تعوي من تكساس. من الفيضانات التي لاتجلب أي خصوبة للأرض، بل تأخذ معها القليل الموجود من خصوبتها.

من كل هذا يهرب الناس. يهيمون على وجوههم وينتشرون جماعات وفرادى وهم يأتون إلى طريق 66 من روافد الطرق الجانبية. من طرق العربات والطرق الزراعية المتآكلة. طريق 66 هو الطريق الأم. طريق الهروب. أرض الغرب الأمريكي توترت أعصابها ببشائر التغيير، كما يقول الكاتب. الولايات الغربية عصبية كالجياد قبل العاصفة المرعدة.

والشركات والبنوك تسعى إلى حتفها من دون أن تدري. الجوع والجفاف. كانت الحقول خصبة والرجال على الطرق تهلك جوعا وتموت. صوامع الغلال ملآنة والأطفال تكبر مصابة بالكساح، والدمامل ذات التقيحات والصديد تملأ جنوبهم والشركات الكبيرة لاتدري أن الخيط الذي يفصل الجوع من الغضب خيط رفيع والنقود التي يجب أن تنفق في الأجور أنفقت في الغاز والبنادق. في العملاء والجواسيس. في القوائم السوداء. في التدريب على القتال والحرب. ليس هناك من يفكر في جوعهم، وكذا الدمامل والأمراض لاتهتم بهم. القوة والغطرسة تتحدى هؤلاء البشر الضعاف الذين لاحول لهم في وجه الريح والجوع. تنكسر أهدابهم. تنطفئ عيونهم. ليس هناك نظرة إشفاق أو حنان إنساني. الجوع سيد الموقف تلك الأيام. القهر.. القهر هو كل شي يغمر الآفاق ويدوس البشر. وعلى الطريق يظل الناس يتحركون، يتحركون ويدبون كالنمل يبحثون عن العمل. عن الطعام عن الأمان. وقد بدأ الغضب يختمر فيهم).

هكذا تقوم الرواية بتوصيف المشاهد. التي أعيد قراءتها الآن في هذا الليل وفي هذا الشتاء الجاف مثل تلك الأيام. وهكذا توصف أيضا.

كان ذلك قد حدث في عام الانهيار الكبير 1929. منذ 92 سنة. بدأ من الخميس الأسود، كما يطلقون عليه في تلك البلاد. انهيار البورصات والبنوك في أمريكا. حالات اليأس والانتحار. والجوع والقحط والمزيد من الانهيار والتداعي استمر الخميس أسود دون بياض حتى العام 1933. ضربة كبيرة وموجعة تلقاها الاقتصاد الأمريكي وداخ العالم مع الضربات أيضا. تجربة مريرة وقاتلة.

الأنسان الأمريكي عانى معاناة قاسية في تلك السهوب. العائلات ترحل من أوكلاهوما. الناس دون استثناء أخرجوا من منازلهم وأجبروا على السفر غربا إلى كاليفورنيا. انقسمت أمريكا تلك اللحظات إلى مهاجرين وغير متحررين. صراع بين أقوياء وضعفاء وردود أفعال شرسة تجاه الظلم بلا توقف. تجربة الظلم قيد يحيط بالإنسان ويحوله إلى أشلاء. تغيب إنسانيته تماما.

تلك كانت خلاصة رواية (عناقيد الغضب ) التي كتبها الروائي جون شتاينبك ونشرها عام 1939. بعد أن التقط من الأعماق الصور والتداعيات المحزنة. ولد عام 1902. بداية القرن الذي مضى في أسرة جذورها ألمانية. والدته أمريكية. كان الأمريكان يسخرون منه ويجعلون من لقبه ستاينبك. ورغم ذلك نجحت الرواية في نقل تلك العذابات وتوثيق تلك المرحلة بإخلاص ودقة متناهيتين. ثم نشر شتاينبك (الألماني الأمريكي!) العديد من الأعمال: البحث عن إله مجهول. شارع السردين المعلب. حين فقدنا الرضا. اللؤلؤة.

أفول القمر. رجال وفئران. أنا وكلبي. منح جائزة نوبل للأداب عام 1962. توفي بمرض القلب في نوفمبر 1968. كانت له سقطة مريعة مسحت تاريخه الثقافي على المستوى الإنساني والأخلاقي. لقد أيد وبارك حرب فيتنام التي كانت تقودها أمريكا هناك. وقهرت الناس وجوعتهم واصطادتهم بطائراتها مثل البط. تجربة أمريكا سيدة العالم الحر في الستينات التي وقف في وجهها كل الشرفاء من الفنانين والمفكرين والفلاسفة والأدباء في أمريكا نفسها وعلى امتداد العالم. لكن شتاينبك تأخر عن أولئك وسقط في الامتحان وأخرج من الفصل. نسي تجارب الحروب والجوع والكوارث ومات من الجوع والافتقار إلى الروح الإنسانية رغم جائزة نوبل!

وفي صورة متجددة على الدوام ظل الأدب والفن رفيقا وساردا لأهوال الحروب والمجاعات والأوبئة والكوارث والمنافي والمعتقلات والقهر بكل أشكاله. جسده في أعمال عديدة. القصة والرواية واللوحة والفيلم والقطعة الموسيقية والأغنية والقصيدة. أعمال كثيرة تلوح أمام النواظر. تولستوي وجوركي. باسترناك. همنجواي. كامو. سارتر. بيكاسو. الأخضر حامينا. رجب بوحويش. الفضيل الشلماني. فاطمة عثمان. نازك الملائكة. الجواهري. والعديد.. العديد من الرواد. الهم الإنساني والحزن واحد بين البشر. والأدب يضعه بين الأيادي في لحظة فارقة من الزمن. الأدب الحقيقي الذي يلتزم الصدق في كل الأحوال.

هذا زمن الكورونا. صورة متجددة للكوارث. قارب نصف العالم على الانتهاء.. أو ربما. فليشرع الفنانون والمبدعون الصادقون في العالم كله في نقل مايحدث. الكلمة تبقى بمرور الزمن.. والكوارث الموجعة!!

هامش:
مابين الأقواس بتصرف وإضافة من النص الأصلي للروائي.