Atwasat

شعوب ليبية؟

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 10 يناير 2021, 12:50 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

 مسألة الدستور الليبي الجديد، للدولة الليبية الجديدة، مسألة في غاية التعقيد والإرباك، وقد تؤدي إلى مزيد من الأزمات، وحتى الحروب. وبغض النظر عن تحكم المادة السادسة من مواد المشروع المزمع طرحه على التصويت، الخاصة باعتبار "الشريعة الإسلامية مصدر التشريع"، التي ستجر البلاد إلى منطقة ظلام كثيف، فإنه ثمة جانب آخر يشكل معضلة بالغة، ألا وهو ذلك الجانب الفني المتعلق بآلية التصويت، شعبيا، عليه.

د. محمد بالروين أثار في مقاله "مشروع الدستور... وآليات التصديق عليه"* هذه المعضلة بتفصيل، وحاول أن يتناولها بشكل محايد. وقد حدد في مقاله إمكانية اختيار آلية من بين آليات ثلاث:
1- اعتبار ليبيا دائرة انتخابية واحدة.
2- إجراء التصويت على أساس الأقاليم الثلاثة المعروفة.
3- إجراؤه على أساس الدوائر الإحدى عشرة التي جرى على أساسها انتخاب أعضاء الهيئة التأسيسية.
لكن ما يبدو موقفا محايدا في ظاهر مقال د. بالروين يحمل، في باطنه، موقفا منحازا تماما لطموحات التيار الفدرالي. فهو يعتبر مصطلح "الشعب" الذي نصت الفقرة (2) من المادة (30) من الإعلان الدستوري على طرح مشروع الدستور عليه للتصويت، مصطلحا فضفاضا.

إذ يتساءل: "هل المقصود الشعب كله؟". أي "اعتبار ليبيا دائرة واحدة؟". ويستطرد "تصور معي... أن جُل هذا العدد أتى من إقليم واحد! فهل يمكن القول وفقا لهذه النتيجة، أن الشعب قد اختار دستوره؟ وهل هذه هي الأغلبية المطلوبة؟ وهل يمكن اعتبار هذا الدستور توافقيا؟ يا أحباب ليس هكذا تُبني الأوطان؟". وبذا يلغي د. محمد بالروين الإمكانية الأولى، التي يطرحها في نهاية مقاله أيضا، لأننا بهذا "سنستمر في لعبة ‘المغالبة العددية‘ وتبني مبدأ ‘من سيضحك على من‘". لأنه "ليس هكذا تبنى الأوطان" وإنما تبنى، في متضمن رأيه، بإحدى الطريقتين الأخريين، اللتين هما، فعليا، خيار واحد، هو الخيار الفدرالي.

إن الحديث عن "لعبة ‘المغالبة العددية‘" يحول المسألة من الحديث عن "شعب ليبي" إلى الحديث عن "شعوب ليبية"، يغالب بعضها بعضا، ما جعل د. بالروين يسارع إلى طرح الحل الشافي للبرء من داء المغالبة هذه، التي ستجعل شعبا ليبيا أكثر عددا من الشعوب الأخرى يضحك على هذه الشعوب. فعلى أساس باطن مقال د. بالروين سنجد أنه لدينا ثلاثة شعوب رئيسية: الشعب البرقاوي (الشرقاوي) والشعب الفزاني (الجنوبي) والشعب الطرابلسي (الغرباوي). وسنجد لدينا أيضا شعوبا فرعية، إذا جاز التعبير. فالشعب الفزاني ينقسم إلى ثلاثة شعوب: عربي وتباوي وتارقي. والشعب الطرابلسي ينقسم إلى شعبين: عربي وأمازيغي. ويمكن أن نجد شعوبا فرعية أخرى. فكيف سنحل معضلة "لعبة المغالبة" هذه داخل كل شعب؟.

وعلى عادة دعاة الفدرالية يلجأ الدكتور بالروين في التدليل على نجاعة طرحه بالاستشهاد بالنظام الفدرالي في أمريكا، ويخوض في تفاصيل دقيقة بخصوص الإجراءات التي اكتنفت عملية التصديق على الدستور الأمريكي (1787- 1791)، أي قبل 230 (مئتين وثلاثين) سنة!. وخلاصة هذه التفاصيل أن بعض الولايات وضعت شروطا لانضمامها للاتحاد، يتعلق أهمها بـ "قضية اللامركزية والخوف من هيمنة الولايات الكبيرة"، وقد عدل مشروع الدستور على أساس هذه الشروط، وهذا الأخذ والرد والشروط والتعديلات جعل عملية المصادقة على مشروع الدستور، الذي كتب في 116 يوما، تستغرق ثلاث سنوات.

من المهم أن نذكر هنا، بداية، أننا لا نشكك في نجاعة النظام الفدرالي في الدول التي كان تبني هذا النظام ضرورة تاريخية لقيامها.

لكن الفدراليين الليبيين يتغاضون عن مسألة في غاية الأهمية، وهي أن ظروف "قيام" أمريكا قبل أكثر من قرنين، تختلف عن ظروف ليبيا "القائمة" حاليا.

فعقب هزيمة بريطانيا سنة 1781 أمام الثورة الأمريكية، تكونت بأمريكا عدة دول states مستقلة (وليس ولايات) وبادرت ثلاث عشرة دولة، بإعلان اتحاد كونفدرالي أسمته "الدول الأمريكية المتحدة United States of America" استمر حتى سنة 1789. والجدير بالذكر أن وثيقة هذه الكونفدرالية المعروفة باسم "بنود الفدرالية Articles of Confederation" منح الدول تقريبا كامل السلطات، تاركا القليل منها فقط للحكومة المركزية، ولم يكن لهذه الكونفدرالية رئيس.

لم تكن في ليبيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية دول مستقلة، ولا أرى أن النظام الفدرالي في ليبيا كان ضرورة تاريخية. وحين ألغي سنة 1963، أي بعد اثنتي عشرة سنة من قيامه، تم القبول به شعبيا ولم تحدث اعتراضات واضحة عليه، بما في ذلك في إقليم برقة الذي يتمركز فيه الآن المتحمسون لإعادة النظام الفدرالي.

إن المناداة بالعودة إلى النظام الفدرالي في ليبيا، يماثل المناداة، الآن، بالعودة إلى النظام الكونفدرالي في أمريكا.