Atwasat

جردة الستين

سالم الكبتي الأربعاء 06 يناير 2021, 03:52 صباحا
سالم الكبتي

(وتلك الأيام نداولها بين الناس) صدق الله العظيم.

قارب الموسم على الرحيل. عام يمضي ويقبل آخر. يقدم إلينا طاويا الأبعاد والمسافات. الصقيع والمطر والليالي. موسم جديد بعد رحيل سابقه. الأيام والأعوام. والبشر يركضون في الزحام..

يطل 2021 برأسه. تبدأ عشرية جديدة من العشرينيات المتواصلة. قرن يزحف منذ فترة ويترك أعواما خلفه.. والذكريات والصور والأطياف تلوح ليس كالوشم في ظاهر اليد. إنها عميقة وتظل ثابتة في لوحة العمر والحياة الطويلة..
ستون زحفت وذهبت. تمطت وتثاءبت. وتكاسلت ونشطت. هدرت وحفلت بكل شي. ستون أيها الستون التي مضت. أعوام تمر سريعة وتقف ثانية أمامنا وكأنها تعيد نفسها وتاريخها بطريقة أخرى. وليس لنا أي دخل فيما يحدث من تكرار أو هو شبه الذي مضى ورحل يتكرر. ستون أيها الستون. والبشر الفانون في الظهائر والليالي والأحداث والشموس والأقمار. والصور تظل وأطيافها تلوح ليس كالوشم في ظاهر اليد. فمن ذا الذي يعي ويتذكر ولا تفارق عقله جملة الأحداث. يستعيدها دون حنين أو عويل. لكنه التاريخ الذي يهدر ويزحف وينشط على الدوام. ستون أيها الستون كأنها بالأمس القريب. كأنها هذا الضحى. كأنها هذا الذي يحدث ويتواصل 1961. ليبيا تنهض من نومها ومدنها جميعا وقراها وإنسانها على عام جديد له من العمر ستون أيها الستون. تزرع شجرا في عيد الشجرة في يناير. تحارب التصحر في العقول والمكان. وفي الرابع من يناير وحتى السابع منه تشارك في مؤتمر الدار البيضاء للدول الأفريقية نهوضا بالقارة. ليبيا دولة مؤسسة لكتلة الدار البيضاء ذلك الشتاء مع المغرب ومالي ومصر وغانا وغينيا والجزائر التي حضرت بصفة مراقب. لم تستقل بعد. تصحو إفريقيا من نومها. تدق طبولها في غاباتها البكر وتوقد نيرانها عند الشواطئ والأنهار البعيدة وليبيا معها تنهض بالمسؤولية والوعي. دولة لها حضورها تلك الأيام في إفريقيا وبعد عامين في مايو 1963.. تؤسس مع شقيقاتها الأفريقيات في أديس أبابا منظمة الوحدة الأفريقية. ليبيا وإفريقيا قبل الضجيج والعجيج وملك الملوك. وفي فبراير يرحل لومومبا مغدورا. تحزن ليبيا ويرثيه شعراؤها. والأحلام تمضي..

تصدر مجلة الإذاعة الليبية في أول أعدادها برئاسة محمد بشير الهوني وتستمر بلا انقطاع. مجلة بألوانها الزاهية ومقالاتها. ونقدها وفيها برامج كل شهر للإذاعة التي يتواصل معها المستمع صباحا ومساء. الثلاثي.. عبدالسلام قادربوه ويوسف العالم ومحمد صدقي يطورون في لون الأغنية الليبية كلمات ولحنا وأداء. تخرج زاهية إلى الأذان الصاغية "طيرين في عش الوفاء". وتضاف إلى الحكومة وزارة البترول لأول مرة. بدأ التنقيب عنه في 1954. وفي هذا العام 1961 يدشن الملك إدريس في أكتوبر أول ميناء بترولي في البريقة ويبدأ التصدير من الحقول عبر الميناء إلى العالم. وتلغي الحكومة المصالح المشتركة الأمريكية وتستلم مرافقها. يصل الشاب السيناتور جون كيندي إلى البيت الأبيض رئيسا لأمريكا بعد إيزنهاور. يظل في المكتب البيضاوي إلى اغتياله في دالاس في نوفمبر بعد عامين 1963. خطوات الدولة في العيد العاشر الذي ستفرح به البلاد وتبتهج. إعلان إستقلالها منذ 10 سنوات يصل إلى أعتاب العيد والسرور. وأجيال تحلم بالرخاء. يحذر منه الملك ويدعو إلى الحفاظ على النعمة.

ويشير إلى أن الكفر بها وعدم المحافظة عليها سيكون من موجبات زوالها. المحافظة على الاستقلال والنعمة التي وهبها الله لليبيين من أهم علامات النضوج والاستقرار. ومجلس الإعمار يخطط ويبني المدينة الجديدة في البيضاء وهناك يتم الشروع من قبل إحدى شركات المقاولات الوطنية في تشييد المقر الجديد للبرلمان فوق التلال. يفتتحه الملك في إكتوبر 1964. وبمناسبة الأعوام العشر ينجز طالب الرويعي مسلسل الشبردق ويخرجه فرج الشويهدي وتقدمه الإذاعة في حلقات ويحاضر بنظرة نقدية إلى تلك السنوات عبدالمولى دغمان عن استقلالنا في عيده العاشر. وتثير نقاشات وحوارات خارج جدران الجامعة. الأحلام والتطلعات والرنو إلى القادم. ستون يا أيها الستون.

وفي يوليو يرحل رفيق الوطن. بعد أن حرك كثيرا. لكن النوام أبوا أن يستيقظوا. رحيل كبير ومفجع. لكن الوطن يسير. تتواصل أجياله. وبعض العثرات. الخطاب الآتي من البعيد والقريب يلاقي صدى قويا في كل الأرجاء وفي صدور الشباب الجديد. وأحلام تغوص في الرمال وتظهر مع الأمواج في حمى الأيام. منشورات وتنظيم البعث واعتقالات في الصفوف وأحكام بسيطة. وإطلاق السراح. وتنظيم الأحرار الوطنيين في بنغازي وقضية كتاب محمد عبدالرازق مناع.. ليبيا العربية في مفترق الطرق. هل هي حائرة أم تائهة. أم ستغرق في الرمال. تظل الإجابات في الهواء. والعيون من الخارج تراقب وترصد وتعد الخطوات وتحسب الأنفاس. لايمكن أن تظل الأمور هكذا. ثمة فراغ وهناك قلق في النفوس، فمن يسد هذا الفراغ أيتها الستون ثم حركة في الجيش.إقالة رئيس أركانه. اعتقال بعض ضباطه. ربما ثاني محاولة تمرد عسكري لاحت في الأفق تلك الشهور. ثم سكنت وصمتت إلى حين. الفراغ والقلق في النفوس أيتها الستون. والعالم ينظر ويرصد. ولابد من المفاجاة مع مرور الوقت والأعوام. السفير الأمريكي يمضي إلى الجنوب ويفتتح مركزا ثقافيا في سبها. ويصدر رجب المغربي أول أعداد جريدته الرقيب. شعارها صوت الشعب العربي تطبع في البداية في مطابع عبدالله عابد السنوسي. ويكتب خلالها.. الصالحين نتفه وفرج الشويهدي وفرج الشريف وعبدالسلام شلوف وفتحية مازق وعبد القادر غوقه باسم (أبو حافظ). مقالات ونقاشات كل أسبوع في بنغازي.

بعد عشر سنوات في ذلك العام يقدم السيد حسين مازق استقالته واليا لبرقة. يتولى بعده أمر الولاية شيخ من شيوخها ومجاهد من رجالها في خطوط النضال والقتال. محمود بوهدمة. يبدأ عهده بزيارة كل المرافق والمصالح والإدارات. يقترب من المشاكل ويكمل المسيرة في الإصلاح والبناء. يضم المجلس التنفيذي شبابا يتولى المسؤولية لأول مرة.. عبدالحميد الرعيض ومعتوق آدم وعبد المجيد عبدالهادي. يتواصل الآباء مع الأبناء. وتنهض ليبيا مع الشمس والصباح ومدنها وقراها كل يوم. ستون أيها الستون. تهتم الدولة بالشباب وترعاه. تصدر لأول مرة قانون حماية الحركة الكشفية ويعتبر الملك حاميا لها وولي عهده قائدا فخريا. وتشارك ليبيا ذلك الصيف ببعثة رياضية كبيرة في مختلف الألعاب في الدورة الرياضية العربية الثالثة في المغرب. بعثة ومظهر جميل وآداء رائع بعد معسكر إعداد لكل الرياضيين في الجامعة بطرابلس.

تنتقل مدرسة بنغازي الثانوية من مقرها القديم في شارع إدريان بلت إلى الجديد في سيدي حسين قرب محطة القطارات. وتصير السابقة مدرسة للبنات ومعهدا للمعلمات. الصفوف تسير مع الصباح وفي الظهيرة مثل الحمائم مع ذلك الشارع. تخترقه وتصافحه الأعين بكل احترام. وجمعية الكفيف تنطلق في بنغازي. وتستمر الأعمال التطوعية عبر المدارس الليلية وإنقاذ أهالي الصابري والكيش والحميضة من فيضانات الأمطار المتدفقة. سيول ضاقت بها المدينة. انتشرت واختلطت بمياه البحر الذي أضحى مثل الطين. مثل الدم .

وتتخرج في بنغازي الدفعة الثالثة من كلية الآداب بالجامعة الليبية تضم أول خريجة ليبية هي فوزية حسين غرور من قسم الاجتماع. وزملاء آخرين كانوا قوام الدفعة الشهيرة. من بينهم الصادق النيهوم وخالد زغبية وسالم قنيبر وهاشم الشريف وأسعد المسعودي وجبريل الزروالي ومحمد عبدالكريم الوافي ومنصور محمد الكيخيا وشعيب المنصوري.. وغيرهم. فيما تتخرج الدفعتان الأوليان ذلك الموسم من كلية العلوم في طرابلس والتجارة والاقتصاد في بنغازي. والدفعة الثالثة من الكلية العسكرية الملكية وأخرى من كلية ضباط البوليس في بنغازي أيضا.

مواسم الأمطار والعلم والفكر والعثرات والعيد العاشر وتصدير البترول وتغير ملامح الحياة الاجتماعية والطفرة الجديدة. وأحلام وأجيال وطريق طويل.. طويل والشموس والأقمار. الظهائر والليالي. ستون أيها الستون.

وهناك. ينفصل قلب العروبة عن قلبه الآخر. في سبتمبر الانفصال يقع بين مصر وسوريا. حلم انفصل وانقطع. تتوه الجماهير العريضة. وتعلو الخطابات والاتهامات. تضيع الوحدة. وتقترب تداعيات الهزائم والانكسارات. ويجد ذلك حزنا عندنا. ولكن لامفر من قسوة الجدران. وتغني فيروز تحت أعمدة بعلبك عبر ضوء القمر في أحلى الليالي. تجديد وأغان ودبكات وحياة مبهجة. تصير المهرجانات لوحة رائعة. تغني.. ويسهر الشام معها والوطن العربي كله مع الإيقاعات والكلمات. أنطر شي إيد تسلم علي.. شي صوت عم بيقول مسا الخير. ومضوية مضوية بالعز والأشعار. ونحن والقمر جيران وعم بتضوي الشمس ع الأرض المزروعة. وياكرم العلالي. أيام الفن والعطاء النبيل. ويفوز ديوان أبيات ريفية لعبد الباسط الصوفي بعد رحيله بجائزة مجلة الآداب. اللجنة المشرفة ضمت الكبار.. بدر شاكر السياب ونزار قباني وخليل حاوي. ويرحل بيرم التونسي.. بساط الريح وعلى بلدي المحبوب وتهاجم فرنسا بنزرت ثم الجلاء. وصالح بن يوسف يغتال بأيدي بلاده في فرانكفورت. ونهاية العام يرحل فرانز فانون.. الصوت الأسود. النضال مع الجزائر ومعذبو الأرض .

ستون أيها الستون. والجراب يحوي الكثير. والموسم يتدفق وينهمر بالجديد يمضي الحزن. يقبل الابتهاج. ثم يأتي الحزن من جديد. والأعوام تمضي. الانكسارات أحيانا أكثر. قسوة الجدران لاتمنع الحلم والتفاؤل. هناك قمر على الدوام جنوب السماء وشمس تشرق في كل الأرجاء.

جردة الستين أيها الستون التي مضت وربما تتكرر. مرحبا بما هو قادم وجديد، على الأقل بكثير من التفاؤل رغم المزيد من الأحزان هنا وهناك!!