Atwasat

أوهام رواندية.. أوهام ليبية

سالم العوكلي الثلاثاء 05 يناير 2021, 12:43 مساء
سالم العوكلي

كثيرا ما يستهويني النقاش حول ما يُكتب، الحوار بين الأفكار والتحليلات اتفاقا واختلافا، وكانت دائما تزعجني في الدوريات الليبية المقالات الذاهبة في خطوط متوازية لا تتقاطع، وكأن كلا يغني على ليلاه، وربما يرجع ذلك كما قال مرة الكاتب خليفة التليسي إلى الحساسية الليبيةِ من النقد لدى حتى بعض المبدعين والكُتّاب الذين يمارسون النقد.

ثمة ما يكتب مغرٍ بالنقاش ومحفز عليه، أو كما يصادف عمر الككلي مقالات الهادي بوحمرة بانها تتسم "بروح الجدية والمسؤولية، أي بالموضوعية. إلى جانب دقة الصياغة وتماسكها. وهي تنتمي إلى التفكير المنهجي النقدي الذي لا يأنس للسائد المسلم به. ومن هنا تكتسب عمقها وأهميتها، ومن هنا، أيضا، يمكن للمرء التفاعل معها اتفاقا واختلافا. والاختلاف مع بعض تفاصيلها وأوجهها، ومعارضتها لا يعد نقضا لها، وإنما يدل على أنها حققت هدفها من خلال تحفيزها على التفكير النقدي الذي تستهدف تعميق مجراه" وإن كان الككلي يستطيع بدقته وموضوعيته أن يجاري هذا النهج، فليعذرني الكاتبان لأني لا أكتب بالدقة نفسها، وكثيرا ما يستعصي عليّ المنهج، وربما يعود السبب لعلاقتي الأولى باللغة عبر الشعر، أو لكون ظل من الشك فيما أكتب يلاحقني أثناء الكتابة وأعجز عن التيقن من أي فكرة أو رأي أطرحه، وربما بسبب ولعي بالفيزياء وترنحي مع ثمالة الحتمية النيوتنية حينما حقنتها نسبية أنشتاين بكأس الشك وأردفتها ميكانيكا الكم بالجرعة التي قصمت ظهر اليقين، دون أن أنسى أن قوانين نيوتن للحركة أوصلت الإنسان إلى القمر ومعادلات أنشتاين في الطاقة أوصلت الإنسان إلى حضيض القنبلة الذرية.

مقالة الكاتب الهادي بوحمرة "أوهام رواندية" المنشورة ببوابة الوسط بتاريخ 25 أكتوبر 2020، والتي بمجرد ان قرأتها خزنتها على سطح المكتب حتى تتاح فرصة النقاش معها، تُقربنا مما يحدث في ليبيا، أو تبعدنا، وفق معطيات قد تصلح للمقارنة أو تنأى عن الهدف منها. مفردة (أوهام) ترد في اللهجة والشعر الشعبي الليبي بمعنى الأطلال أو أمكنة الذكريات الغابرة، وهذا ما قصدته في العنوان كي تختلف، لغويا أيضا، أوهام رواندا عن أوهام ليبيا.

انطلق الهادي في كتابته عن التجربة الرواندية بكل ما فيها من ألم وأمل من مبدا الحتمية التاريخية، بمعنى ما حدث في الماضي سيحدث أو قد يحدث في المستقبل طالما أسبابه قائمة، وهو منطلق بقدر ما قد يصح في حالات معينة قد تقوضه تجارب أخرى جعلت من مآسي الماضي خارطة طريق تتجنب تكراره، والعديد منها نجح.

من جانب آخر؛ الحديث عن رواندا وفق تقارير إخبارية أو تغطيات إعلامية أو أرشيف سُجل في زمن التباس المشهد قد لا تعكس الصورة الحقيقية لطبيعة الصراع التي نبني عليها تحليلاتنا وحدوسنا المستقبلية، وقد اختبرت هذا فيما يخص طبيعة الصراع في ليبيا وانعكاسه في الميديا العالمية، في التقارير الإخبارية والمقالات التي كتبت في صحف رصينة، وحتى تقارير مندوبية الأمم المتحدة الأقرب إلى الموضوعية لا تنأى عن الأحكام الخاضعة لضغوط والتباسات المرحلة، ويتضح مثل هذا التشويش أكثر في متابعتي للتحاليل أو التقارير التي تتناول أحداث مدينتي درنة وضواحيها التي عشت سنوات رعبها يوما بيوم، والتي كانت، قبل ثلاث سنوات، موضوع حوار بيني وبين السيدة سوزان غوشة مديرة مكتب غسان سلامة، في عَمّان، حيث أخبرتني أن الصورة لديهم مختلفة تماما عما قلتُه، وبعد الحديث وجهت لي دعوة لزيارة مكتب المندوبية في تونس، لكني أعتذرت لأني كنت وقتها خائفا بل مرعوبا، ومازالت مواكب الرايات السود تمر من أمام بيتي، يحملها القتلة ممن تسميهم الكثير من وسائل الإعلام وقتها (ثوار درنة) المدافعين عن أهداف ثورة فبراير ضد الثورة المضادة. وربما يوما ما سيُكتب التاريخ وفق هذا الأرشيف.

ينطبق هذا عما يصلنا من توصيف لأحداث سوريا أو اليمن أو السودان، وربما عما وصلنا حول ما حدث في رواندا، وفي حالة رواندا كان ملاذي العديدَ من الأشرطة الوثائقية التي أعدها صحفيون مغامرون تغلغلوا داخل المجتمع (الضحايا) وتحدثوا مع الناس مباشرة عما حصل، ورغم أن الحقيقة دائما تراوغ إلا أن الحديث مع الضحايا وتصوراتهم للماضي والمستقبل بالتأكيد سيختلف عما تكتبه التقارير الإخبارية أو الصحفية أو المقالات السيارة. وتعكس تلك الأعمال الوثائقية عينة من آراء أغلبية هائلة كانت ضحية لصراع ميليشيات مسلحة تعد بعشرات الآلاف وسط ملايين لا يريدون سوى الاستقرار والحياة وتربية أولادهم، كما تؤكد أن الرغبة في نسيان هذه الذكريات السيئة حقيقية لدى الجيل الناجي من هذه المجزرة، وهي الرغبة نفسها التي لمحناها عند الجيل الذي انتفض في الجزائر، وحرص على أن تكون ثورته سلمية انطلاقا من رعب العشرية السوداء التي حرصوا على أن لا تتكرر، في وقت كان يقال أن الربيع العربي لو انتقل للجزائر لأفضى إلى مذابح وحرب أهلية.

ولكن بعيدا عما يطال هذه الأحداث من تشويش خصوصا ونحن مازلنا في قلبها، من الممكن أن نناقش النهج النظري الذي حلل به الكاتب الهادي التجربة الرواندية وما جعله يصف المرحلة الحالية التي يضرب بها الكثير من الليبيين مثالهم الأثير للتفاؤل بالأوهام ــ وهي أيضا قراءة خارجية إعلامية لما يحدث في رواندا الآن شكك فيها الهادي بشكل رزين ومهم أيضا ــ لأن التفاؤل دون ركائز ضار مثل التشاؤم دون ركائز، غير أن خلافي الجزئي معه يكمن في ما سميته الحتمية التاريخية، كما أني استشففت (بدون حق) في إشارة الهادي إلى أوهام رواندا أنه يشير إلى، أو يحذر من أوهام قد تكون مشابهة في ليبيا، خصوصا بعد أن طفحت صفحات مواقع التواصل الليبية بنشر تقارير مصورة عن رواندا كقصة نجاح بعد حرب أهلية شرسة، البعض نشرها من باب التفاؤل والبعض من باب التشفي.

هل ثمة مقارنة فعلا، أم أن الأمر مختلف بين ما حدث في وراندا وما حدث في ليبيا؟ ومنطلق الإجابة، إن كانت ممكنة، سؤال تُنوقِل كثيرا مفاده: هل ما حدث ويحدث في ليبيا تنطبق عليه تسمية حرب أهلية؟ أو حرب جهوية؟ وانطلاقا من تعريفات مختلفة لمفهوم الحرب الأهلية تتضارب الأجوبة وتزيد الحيرة، ونحن ندرك أن الاستقطاب في ليبيا وصل إلى داخل البيوت والأسر التي انقسمت، وهذا أمر لم يكن يحدث لدينا إلا مصحوبا بمرح في تشجيع فرق كرة القدم المحلية والعالمية، وربما طبيعة هذا الانقسام الأفقي يشكك في مقارنة ما حدث في ليبيا بما حدث في رواندا التي كانت الحرب فيها فعلا بين قبيلتين، كل فرد منهما يحمل هوية في جيبه تحدد انتماءه القبلي، وعَرْضُ مقالة الهادي للواقع السياسي لرواندا يؤكد أن نظامها السياسي كان أوليجاركيا، او حكم الأقلية التي قد تكون حزبا أو طائفة أو إثنية، أو قبيلة كما في رواندا، وبالتالي طبيعة النظام السياسي في رواندا وقاعدته الاجتماعية القديمة المختلفة عن طبيعته في ليبيا من الممكن أن تساعدنا في تعزيز أو تقويض المقارنة.

فيما يخص ما أشار إليه المقال من عودة النظام الاستبدادي، أو ما سمي "الدكتاتور العادل" ، في وصف رئيس رواندا، رغم الاحتراز الدستوري الذي من المفترض أن يضمن تداول السلطة وتم التلاعب به كما يحدث في تجارب العالم الثالث الديمقراطية أو أغلبها، فهذا حقيقي، ومَثّل تاريخيا الكثير من مآزق التحولات الديمقراطية في العالم المسمى ثالثا، وسبق أن كتبت مقالة عن تداعيات انتخاب (رئيس) في ليبيا باعتبارها ستكون أول تجربة في التاريخ الليبي، واجتهدتُ في ذكر محاذير هذا الاستحقاق لأننا لم نجربه، وضربتُ مثلا ببعض الدول الأفريقية التي رغم تمتعها منذ عقود بدساتير تضمن التداول السلمي للسلطة وفق سقف زمني محدد إلا أن عديد الرؤساء الأفارقة الذين خسروا الانتخابات لم يخرجوا من قصورهم إلا عن طريق حروب أهلية. ولأننا لم نجرب هذا الاستحقاق طرحت المقارنة بحذر، لأنه مثلما التاريخ ليس بالضرورة أن يكرر نفسه أو يحاكي أحداثه في الماضي فحتى الجغرافيا ليست بالضرورة أن تفعل.