Atwasat

قلوب مبصرة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 04 يناير 2021, 01:52 صباحا
محمد عقيلة العمامي

لعله نصف قرن مضى على ذلك اليوم، الذي دخلت فيه مبني بيتي، وهو تحت الإنجاز. البناء أبوسيف عجوز من سوريا قليل الكلام، كثير التدخين، فما إن ينجز رص صف من حائط، حتى يجلس ويسكب قليلا من الشاي ويشعل سيجارته، ويسرح بخياله مع دخانها. قد تطول القعدة، أو تقصر، كله بحسب رحلته إلى ماضيه! غبت عنه أياما، ولما جئته وجدته في الصالة التي يقسم حوائطها منذ حوالي ثلاثة أسابيع. يبدو أن مزاجي لم يكن رائقا ذلك اليوم، امتعضت من تأخيره واختممت خطابي وحنقي قائلا: "لا أظن أن قبر الدنيا هذا سيكمل.. يا سي يوسف؟" نظر إلى بعد أن امتص قدرا من سيجارته، قام.. رماها، وسحنها بقدمه، واتجه نحو الحائط الذي توقف عنده، ثم التفت نحوي وقال بمرارة من خلال ابتسامة حزينة: "ولو سي محمد! يكمل العمر، فكيف لا يكمل بيتك؟" وواصل عمله. ما إن هدأت حتى رجحت أن جلسته كانت تحسرا عن عمر قضاه من دون أن يتدبر في حتمية تقاعده، فتأسفت على ثورتي وحنقي عليه.

وفي منتصف شارع عمر بن الخطاب، الذي اشتهر باسمه الإيطالي "فياتورينو" كان هناك محل صغير يبيع الخضروات، صاحبه رجل مكافح طيب، ابنه أصبح من أفضل حراس مرمى نادي التحدي. جيلي يتذكر عبارته الشهيرة التي يرددها طوال اليوم خصوصا عندما يسمع أن أحدا توفاه الله، كان يقول: "عدى يا لأول .. جاك الثاني!". ولم أستوعب، حينها، ما الذي يقصده بجملته هذه إلاّ مؤخرا: "يذهب الأول ويلحق به الثاني. وهكذا ينتهي كل شيء، فنحن نلحق ببعضنا البعض. الموعظة، قد تأتيك هكذا من مصادر، وفي مناسبات غير متوقعة، وقد لا تنتبه إلى بلاغتها إلاّ بعد زمن قد يطول أو يقصر.

برز الدكتور الأمريكي هوارد روسك (1901- Howard A. Rusk – 1989) عالميا في مجاله، وكان أول من حصل على جائزة (Pacem in Terris) من مركز "البابا يوحنا بولس الثاني" للصلاة والدراسة من أجل السلام. لقد اهتم هذا الدكتور بإعادة التأهيل بعد الحرب ثم طوره ليصبح عاما. واستمر في كتابة عمود طبي أسبوعي في صحيفة نيويورك تايمز منذ سنة 1947، حتى رحيله.

في واحد من مقالاته تحدث عن أن مناقشة علاجية مع صبي عمره أثني عشر عاما ولد أعمى، أبعد هذا الصبي من المدرسة لكونه بعيدا عن الواقع، لأن تقرير إبعاده تأسس على مقابلة مع الطفل، دون أن يعرف أن ما يقوله سيحدد مصير دراسته، فظل يحكى على سجيته. لقد أورد الدكتور الكاتب، مثلما قال، حرفيا كلام الطفل، ولكن لطوله سوف أوجزه كالتالي:
"هناك أشياء كثيرة في العالم يستطيع الناس بلوغها، ويأخذون جزءا منها لأنفسهم، ويوزعون الباقي على الناس، والنقود ليس من هذه الأشياء، لأنها لا تكون صالحة إلاّ لسبب ابتكارها، وإن كان لها دور مهم في عون الآخرين، ولكن غالبا ما تتمكن الأنانية من النفس البشرية، فلا تتحقق مساعدة المحتاجين، بالدرجة المرجوة. ولكن بالتعاطف والصدق والسلوك الخالي من الغش يستطيع الناس أن يوزعوه فيما بينهم، من دون أن تغلبهم الأنانية والطمع في المال. ولقد استمعتُ من الراديو، عن التكامل، والتعاطف المطلوب في المدارس، وأرى أنه قد يحدُ من تلك الضجة الكبيرة بسبب اختلاف التلاميذ، على سبيل المثال، بسبب ألوانهم، فالألوان لا تعني لي شيئا، لأنني لا أعرف الاختلافات بينها!! وبمقدورهم أن يصلوا إلى تلك الحالة، ولا يحتاجون إلاّ لغض النظر".
وفي فقرة أخرى قال الصبي:
"بسبب معالجة سمعي، ملأ الطبيب أذني بالقطن، وجئت إلى المدرسة أسمع من أذن واحدة، ولأنني اعتمد على صوت أقدامي وارتداده لحفظ توازني وخط سيري وجدت صعوبة في السير من دون ميل نحو أحد الجدارين، ولما مررت بغرفة مفتوحة الباب وينبعث منها ضجيج، اعتراني شعورا بالضياع، وخشيت أن أصطدم بشيء في طريقي، أو الوقوع فيما يؤدي إلى خطأ مزعج ، وكل ذلك بسبب اعتمادي على مصدر واحد للوصول إلى غايتي، ذلك الموقف - يا سيدي – يشبه إلى حد كبير التعصب، بمعنى الاعتماد على حدس واحد!" وفي فقرة ثالثة، قال الصبي:
" أثناء عودتي إلى بيتنا سيرا على قدمي، اندفع بغتة صبي يلحق بكلب فوقعت ما بين أحراش، وعندما قمت فقدت اتجاهي وأبعادي، وعجزت عن معرفة أي اتجاه أسلك. كان شعورا مرعبا ولم تنقذني منه سوى أجراس كنيسة كنتُ أعرف موقعها من بيتنا، وتمكنت من تحديد موقعي منها. واصلت خط سيري، وتذكرت على الفور البطل "روي كامبانيلا" لاعب البيسبول العظيم، الذي أصيب في حادث بشع، انتهى به مشلولا. وحينها انتبهت إلى أن العمى ليس أسوأ مصائب الدهر، وإنما الشلل!".
واختتم كاتب المقال بما قاله عن لسان هذا الصبي، وهو أنه لو قدر أن تكون له (رغبات) فسوف يختار من بينها الرؤية، على الرغم من أنه تعايش مع الظلام، وقال: "وفي تقديري أنني عرفته معرفة جيدة، بل صرنا أصدقاء، وأحيانا أكرهه ولكن لا ألقى اللوم عليه! أما إن كانت لي رغبة واحدة فسوف تكون أن يفهم كل إنسان أخاه، وأن يصل إلى مشاعره الداخلية العميقة!".

وها هي سنة أخرى انصرمت مما تقرر لنا أن نعيشه، ولا أدري لما صحوت هذا اليوم المبارك في أول هذا العام الجديد 2021 وتذكرت في الحال أبو يوسف، و "عدي يا لول، جاك الثاني" أما هذا الطفل البصير الفيلسوف، فلم يغب عن بالي طوال الشهرين الماضيين.

وكل عام وانتم بخير!