Atwasat

معوقات النمو ومهلكات الازدهار (2- 2)

أحمد معيوف الخميس 31 ديسمبر 2020, 12:06 مساء
أحمد معيوف

"عندما تسود المدنية الحقة في أي دولة فإن

حياة أفضل تتاح لكافة أبناء الشعب"
نييل فيرجسون

الاقتصاد لم يكن السبب، والجغرافيا أيضا لم تكن السبب، فمؤرخنا لا يؤمن باختلاف العرق او الجغرافيا في اختلاف الأداء للبشر. وقد أشار إلى أن العلماء استطاعوا أن يتحققوا من أهمية الجغرافيا في رفاهية العالم المرفه. فتحدث عن تجربة الألمان مثلا، لقد قسمت ألمانيا بعد الحرب إلى دولتين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، وفي حين استطاع الألماني الغربي في فترة قياسية أن يخترع سيارة مرسيدس مفخرة صناعة السيارات أنتج "أخوه" الألماني الشرقي سيارة "ترابانت" وهي سيارة شبيهة جدا بسيارة الأودي السوفياتية، بل نسخة متخلفة عنها، وليس من سوء القصد أن تنعت بأنها أسوأ سيارة في العالم.

ليست ألمانيا استثناء، كوريا قسمت أيضا إلى دولتين فكان الاختلاف رهيبا بين الدولتين. هكذا، نستنتج إذا أن الجغرافيا والعرق لا يمكن أن يكونا عاملين قادرين على أن يجيبا عن سؤال اختلاف الرفاهية.
أسباب الرفاهية كما يسطرها الأستاذ المؤرخ هي ست أسباب غيابها قاتل كالتالي:
السبب الأول- المنافسة:
اوربا كانت مقسمة سياسيا إلى العديد من الممالك والجمهوريات، ومنقسمة بالداخل الى العديد من الشركات المتضامنة والمتنافسة أيضا، الكثير من هذه الكينونات كانت أسلاف المؤسسات الاقتصادية الحالية. التنافس بين هذه الدويلات وهذه الشركات أصبح عماد الاقتصاد الحالي. هذه الحالة لم تكن في الصين مثلا.

السبب الثاني – الثورة العلمية:
يرى الطفرة العلمية التي تحققت في القرن السابع عشر في الرياضة والكيمياء والفيزيا والأحياء والفلك جلها حدث في الغرب. ويرى فيرجسون أن الفضل في هذه الطفرة يعود بالدرجة الأولى إلى التجربة وتكريسها في العلم، ويعتبر فضل السيطرة في الطبيعة يعود إلى العلوم التجريبية التي سادت أوربا. ويشير بالمقابل إلى فشل الإمبراطورية العثمانية القوية التي لم يتطور فيها العلم التجريبي، بل سعت إلى القضاء عليه، وقد أشار إلى هدم الأتراك لآلة الرصد التي صممها العالم تقي الدين الشامي لأنهم اعتبروها تجسسا على ذات الله.

السبب الثالث – حقوق الملكية:
حكم القانون والحكومة البرلمانية تعتبر نظاما اجتماعيا سياسيا مثاليا أدخل إلى العالم المتحدث بالإنجليزية، مؤسسا على حقوق الملكية الخاصة، وتمثيل أصحاب الأملاك في الهيئات التشريعية. ويبين المحاضر الفرق بين ملكية الأرض في الأمريكتين وانعكاسها على الرفاهية. ففي حين انتقلت ملكية الأرض في أمريكا الشمالية إلى اصحابها الذين عمروها وساهموا في اقتصاد البلد، فإن الأرض في أمريكا الجنوبية هي ملك لأفراد قلائل من الأسبان الأغنياء. يضيف في هذا الصدد عبارة شهيرة للمفكر الإنجليزي جون لوك حيث يقول "الحرية نبعت وترسخت من حقوق الملكية الخاصة وحماية القانون".

السبب الرابع – الطب الحديث:
الطفرة العلمية التي تحققت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين في مجال الطب والرعاية الصحية تحققت على يد الغرب. هذا الأمر ضاعف من عمر الإنسان وحسن من بنيته الجسدية وكفاءته الإنتاجية، ومن السهل التحقق من ذلك بمقارنة متوسط الأعمار في الدول الفقيرة وفي الدول الغنية، ففي الغرب يصل متوسط العمر إلى 80 سنة، في حين لا يتجاوز 50 سنة في الدول الأفريقية الفقيرة. هذا يعني أن المواطن في دول الغرب قادر على أن يساهم في العملية الإنتاجية لمدة تزيد عن خمسين سنة، أي مدة تعادل متوسط أعمار مواطني الدول الفقيرة.

السبب الخامس – المجتمع الاستهلاكي:
الثورة الصناعية حدتث في الأماكن التي عملت فيها التقنية التي على تحسين الإنتاج والمطالب المتزايدة على مواد أكثر جودة وأرخص سعرا. الاستهلاك هو الدافع للنموء الاقتصادي، وتحريك دورته.

السبب السادس- أخلاقيات المهنة:
الدول الغربية من أول الدول التي عملت على دمج قدرات العمل مع معدلات التوفير العالية، بالتأكيد هذا يزيد من قدرة الشخص على الاستهلاك ويساهم في إنماء الثروات. أخلاقيات العمل ليست حكرا على المجتمعات البروتستانية كما كان يظن الاقتصادي الألماني ماكس فيبر، إلا أن البروتستانتية دفعت الناس إلى التعليم، لأنها أكدت على حاجة المؤمنين إلى قراءةَ الكتاب المقدس. كل الحضارات والثقافات قادرة على أن تكرس أخلاقيات العمل في مجتمعاتها في حال تواجدت بها المؤسسات، خاصة تلك المؤسسات القادرة على خلق الحوافز.

وفي ختام المحاضرة، يرى المؤرخ نييل فيرجسون أن العديد من الشعوب أصبحت الآن تملك أخلاقيات العمل وتبني المؤسسات الفاعلة، ويقول أن الفجوة في التعليم كما بينتها دراسة عن مؤسسة البرنامج الدولي لتقييم الطلاب بين شنغهاي والولايات المتحدة كبيرة جدا، كالفجوة بين الولايات المتحدة وألبانيا. ويقول إن الشرق ( نحن لا ننتمي إلى الشرق الذي يقصده) متقدم جدا عن الغرب في مجال براءات الاختراع.

ويوافق مؤرخنا السياسي المشهور تشرشل في تعريفه للحضارة التي يصفها كالتالي: "مجتمع مؤسس على آراء المدنيين يعطي مكانا للبرلمان حيث يصاغ القانون ويدعو إلى استقلال القضاء، ومع مرور الزمن تستمر تلك القوانين وتبقى، في هذه البيئة تزدهر الحرية والثقافة والاقتصاد".

أين تكمن الأولويات في البناء؟. سؤال ربما تصعب الإجابة عليه للوهلة الأولى، لكن نظرة متفحصة في حديث مؤرخ عبقري ستقودنا إلى إدراك أن أولى الأولويات يكمن في بناء مؤسسات مستقلة. فالمؤسسات وحدها قادرة على إنتاج الدولة. عندها فقط تسود المدنية الحقة وتتحقق حياة أفضل لكافة أبناء الشعب.