Atwasat

صفيفيرة

صالح الحاراتي الأربعاء 30 ديسمبر 2020, 09:37 صباحا
صالح الحاراتي

كانت الحالة العامة والسائدة لمعظم الناس أنهم يعيشون فى حالة من العوز والفقر، ولذا ليس أمامهم إلا اللجوء إلى ما تجود به الطبيعة من خير.. البحر بخيره والبر بخيره، والسماء وما فيها من طيور هى ملك مشاع لمن استطاع إلى صيدها سبيلا..

كنت أخرج لصيد العصافير باستخدام مصيدة حديدية صغيرة بعد وضع الطعم بها.. والانتظار لحين اقتراب عصفور منها، فهي تقوم تلقائياً بالإمساك بالعصفور دون أذيته، لكن هذه العملية تحتاج أحيانا إلى وقت طويل وصبر، كما أنّه لا يمكن صيد أكثر من عصفور واحد فى كل مرة . أحيانا تكون حصيلة الصيد لا بأس بها، وتدخل البهجة على أهل البيت، ولكن أحيانا تكون الحصيلة صفرية.

في إحدى المرات والنتيجة سلبية وقبل انتهاء الوقت للصيد نجحت فى اصطياد عصفورة، ثم أخرى من النوع الصغير والهزيل جدا، وهذا النوع يمتاز بصدر وبطن ذاتي لون أصفر فاقع ويسميها الأطفال "صفيفيرة".. وهناك من يسخر ممن يصطادها لأنها تقريبا لا لحم فيها.. رجعت للبيت، وعندما شاهدت أمى حصيلة الصيد ابتسمت وقالت لي:
أطلق سراحهما، ولك أجر كبير عند الله.. فكانت الاستجابة سريعة..
خرجت أمام البيت وأطلقت سراحهما وأنا سعيد وأفكر بالجزاء الذى ينتظرني من الله، كما قالت أمي.. ولأول مرة توارد لعقلي أن الحرية لهذا الطائر أمر فيه رضىً من الله..
كان ابن الجيران يدعمني بكلام طيب ويقول لي.. المرة القادمة ستصطاد "حمراية" أو "بو بشير." وهى طيور كبيرة الحجم بالنسبة للعصافير وأدنى من الحمام .

اليوم التالى لم أصطد شيئا، وكلام ابن الجيران لم يتحقق ،رغم أن الحلم بالجزاء الذي أشارت له أمي استمر مسيطرا على تفكيرى.

وعرفت بعد ذلك أن صيد العصافير الكبيرة نسبيا يحتاج إلى مقومات. منها أنه يجب أن يكون الطعم مناسبا واختيار المكان المناسب، كما يحتاج الأمر إلى المزيد من الصبر.

استمرت علاقتي بـ "الصفيفيرة" حيث أنها سهلة الوقوع في الفخ، ربما لأنها ضعيفة الحيلةأاو كأنها تحسن الظن بالناس وتظن أنهم يقدمون لها الطعم عربون صداقة.. ولكنى صرت فى كل مرة أصطادها أقوم بإطلاق سراحها فورا طمعا في الأجر، وكلما حدث لي أمر جيد أحدث نفسي بأن ذلك مرده لأني أطلقت سراح الكثير منها.

مضى زمن وتركت هواية الصيد تلك، بل وصرت أحب الطيور وأقدم لها ما تيسر من طعام فى شرفة البيت.. والصفيفيرة أصبحت تساوي عندي الإنسان البسيط الذي لا حول له ولا قوة ويحتاج مساعدة الآخرين.

اليوم صرت أؤمن بأن العلاقة بين الإنسان والطيور لم تكن مجرد علاقة عابرة، بل تجاوزتها لتكوّن جزءا من منظومة ثقافية ورمزية. فالموروث الشعبي به الكثير من الأغاني والقصص والأمثال والحكم، حيث تكوّن الطيور جزءاً أصيلا منها .. وبشكل عابر نتذكر "الطيور على أشكالها تقع"... والشاعر قيس ابن الملوح إذ يقول :
أَسِربَ القَطا هَل مِن مُعيرٍ جَناحَهُ
لَعَلّي إِلى مَن قَد هَوَيتُ أَطيرُ

والرمزية التي يسقطها الإنسان على الطيور في معظم المجتمعات الإنسانية، تكاد تتفق على ما لهذا النوع من الكائنات من أهمية. فهناك طائر العنقاء الأسطوري الذي يحترق ليخرج من النار أقوى وأجمل، ويرمز إلى التجدد والخلود، ذلك الهدف الأزلي المستحيل للإنسان.. كما يعتبر التشاؤم أو التطيّر نوعا من إعطاء القوة الخارقة للطيور، حيث يمكن للطير باعتقاد المتطير أن يغيّر من واقع ما. وكلمة التطيّر نفسها في اللغة العربية ااشتقت من الطير. فهناك من يتشاءم من الغراب وآخرون من البوم، وإلى أولئك أقول الذين يعتبرون رؤية البوم تمثل نذير شؤم يتربص بالمكان الذي تنعق به البومة، عليهم أن يتأكدوا من أن البومة بريئة قطعا، وهي طائر جميل ومفيد، فغذاؤه على الأغلب هو القوارض الضارة .