Atwasat

القرايا والسرايا!!

سالم الكبتي الأربعاء 30 ديسمبر 2020, 09:32 صباحا
سالم الكبتي

طوال فترة استقلالها، التي لم تكمل عامها الثامن عشر، ظلت ليبيا على استقرار وهدوء يكاد يكون ثابتا في علاقاتها مع العالم ودول الجوار. التزمت قواعد القوانين والأعراف الدولية ومواثيق الجامعة العربية واحترمت تعهداتها في تلك العلاقات. لم تتدخل في شؤون أحد. لم تشاكس أحدا. لم تكن مصدر قلق للآخرين رغم موقعها الحساس في قلب العالم. وحين آوت في أراضيها بعض اللاجئين السياسيين، لم تسمح لهم بأي نشاط يعادي دولهم من أرضها، وعندما ارتضت أن يكونوا في مأمنها فإنها فعلت ذلك بناء على معطيات إنسانية ووفقا للظروف التي يحترمها العالم في هذا السياق.

لكنها في جانب آخر لم تتأخر رسميا وشعبيا في مناصرة قضايا الشعوب دون خوف. وأبلغ دليل على ذلك المواقف الليبية الوطنية من قضية الجزائر منذ انطلاق ثورتها في نوفمبر 1954 وحتى إعلان استقلالها في يوليو 1962. كانت ليبيا سندا قويا لهذه الثورة حتى النصر بلا توقف. كانت ليبيا في المجمل هادئة ومستقرة في علاقاتها وحافظت على ميزان تعاملها مع الدول كافة وراعت مصالح الجميع في كل الأحوال. لكن تبدلت هذه الأمور في مراحل لاحقة تجاوزت فترة الاستقلال وأضحت الرائحة الليبية تفوح في كل المشاكل على وجه الأرض، وكثيرا ما أضحت ليبيا كثير مدعاة للقلق بسبب التدخل في شؤون الآخرين. الحروب والنزاعات. الأمور الداخلية للغير وحشر الأنف وسطها. كل ذلك شوه من صورة ليبيا وأبنائها وربما دفعت من سمعتها العديد من الصور الحسنة. صورة قديمة تشوهت وتلطخت بالتدخلات والمؤامرات غير الضرورية ودفع المواطن الليبي الثمن غاليا. وحوصر وأضحت سمعته في العالم سيئة إلى حد لايطاق. وظلت هذه السيرة تتردد على الدوام في مختلف التصريحات والاتهامات والمؤلفات دون أن تجد ردا شافيا سوى المزيد من الحماس الجارف دفاعا عما تقوم به السلطات دفاعا عن الحرية في كل مكان!!
تورطت ليبيا في الكثير من العمليات السرية والعلنية. وخلقت القلاقل بدون مبرر مقبول. وأصبحت ليبيا التي كانت هادئة وعاقلة ورصينة في سياستها الخارجية عنوانا يثير الخوف ويشير إلى دعم الإرهاب وعدم الاستقرار في العالم. وتشوهت الصورة بالمزيد من الظلال السوداء وصار من الصعب تنظيف هذه السمعة عند الجميع من أقطار الدنيا وأصبحت ليبيا مثارا للشبهات ودليلا مستمرا على غياب الثقة مع العالم. أصبحنا وحدنا نواجهه بالهتافات وأن أنصارنا معنا في كل البقاع واتضحت عدم مصداقية هذا الكلام.

وظلت البلاد تدفع ثمنه بلا توقف دون أن يعالج أو يتم إصلاحه في كل الأوقات.

وهذا كتاب عنوانه (مذكراتي.. حساب السرايا وحساب القرايا) لمؤلفه نذير رشيد صدر عن دار الساقي ببيروت عام 2006 ومنع من التداول داخل وطنه الأصلي الأردن، وظلت تتلقفه الأيادي في نسخ مصورة. ثم نشر في طبعة ثانية عام 2009 . كان المؤلف حين نشر هذه المذكرات قد بلغ من العمر ثمانين حولا. وهي شهادة منه مباشرة حكى فيها عن تجربته المهمة المعاصرة في تاريخ وطنه الأردن. بدءا من ولادته في السلط عام 1929 ودراسته هناك ثم في الكلية العسكرية ببغداد. وفيها تخرج ضابطا عام 1950. كانت الأردن ضعيفة المصادر والإمكانيات وظروف حرب فلسطين عام 1948 ماثلة في الذاكرة ومخيمات اللاجئين ومساعدات الأنورا. والجيش العربي يديره غلوب باشا. والأسلحة بسيطة وقليلة العدد.

موقع الأردن الحساس وظروفه الصعبة تركض بقوة عبر الكتاب. ونذير رشيد. أحد المشاركين في تنظيم الضباط الأحرار بقيادة اللواء علي أبو نوار عام 1957. حوكم بعد المحاولة الانقلابية كما وصفت واتضح أنها لم تكن كذلك حسب روايته. كانت مجرد عملية تدريبية ينوي الجيش القيام بها تحت مسمى (مناورة هاشم) وصورت على أنها انقلاب ضد الملك حسين. ولم يكن الأمر كذلك. وقد كُتب عن أبو نوار وحركته الكثير، لكن ثمة تداخلات عديدة في غياب الراوي عند سرد الحكايات التي ظلت قيد التاريخ وتحتاج إلى تدقيق وفحص حقيقي يؤكد الواقع وينفي المبالغ فيه.. وعنه!! وفي المنفى في سوريا ولبنان أيام الوحدة ثم القاهرة قضى سنوات وواصل دراسته الجامعية. وأسهم في تهريب عبد الحميد السراج من سجن المزه إلى بيروت عام 1962. واشترك مؤيدا لكمال جنبلاط في أحداث لبنان عام 1958. وبعد عودته إلى الأردن 1965 ظل مزارعا في أرضه في مناطق الغور ثم أعاده الملك حسين الذي كثيرا ماينجح في إدارة معاركه مع خصومه إلى السلك العسكري واختاره مديرا للمخابرات العامة في وقت صعب نشأ عن نكسة 1967. وتولى نذير في هذه المدة تأسيس فرع إسرائيل بالمخابرات الأردنية وزود على حد قوله في مذكراته المخابرات المصرية بالكثير من المعلومات التي كانت تجهلها عن إسرائيل قبل النكسة إلى الحد الذي جعل عبدالناصر يقول في إحدى خطبه أنه فوجئ بحجم القوات الإسرائيلية وعدم جاهزية الجيش المصري. معرفة العدو تأخرت كثيرا وكان ما كان.

ثم عين سفيرا بالمغرب وبعدها وزيرا للداخلية. من الأمن إلى الأمن. الخبرة والتجربة. ولأنه من الحرس القديم، كما يقال، اختار عن قناعة الانسحاب من العمل العام بعد وفاة الملك حسين، وترك المجال للأجيال الجديدة في الأردن.

عام 1950 اشترك نذير رشيد في دورة تدريبية بمعسكر صبراتة في ليبيا لمدة ثلاث أشهر بإشراف الإدارة البريطانية ذلك الوقت.

يركض التاريخ في الكتاب ويكشف نذير رشيد رجل الأمن والمخابرات الكثير من الخفايا والأسرار، ومن أهمها محاولة انقلابية اكتشفت كان يدبرها تنظيم عسكري سري تموله ليبيا عام 1971، بقيادة رافع الهنداوي قائد كتيبة المدرعات الأولى الموجودة آنذاك في قصر رغدان لحراسة الديوان الملكي. أثناء المتابعة لنشاط التنظيم وقعت المخابرات على رسائل متبادلة بين قائد التنظيم في الأردن وزميله الذي كان حلقة الاتصال مع السلطات الليبية، وتم التحفظ على أموال أرسلت من ليبيا عن طريق دمشق وأحضرتها إلى الأردن سيدة مشاركة في التنظيم وهي زوجة أحد كبار المسؤولين. والعجيب أن الشريك المدني في تلك المحاولة هو حزب التحرير الإسلامي، وخلال التحقيق اعترف الهنداوي بالاتصال الخارجي بين ليبيا والحزب!!

المذكرات فيها الكثير: معركة الكرامة التي ينسب بطولاتها للجيش الأردني دون سواه. وأحداث سبتمبر 1970 . واغتيال وصفي التل في القاهرة آواخر 1971. كان القتلة قد دخلوا مصر يومها بأسلحتهم عن طريق مطار القاهرة.

العنوان الفرعي لمذكرات نذير، وهو حساب السرايا وحساب القرايا، يستند على مثل من التراث الشعبي الأردني ويعني في تفاصيله أن القرايا هم عامة الناس والسرايا أهل الحكم والسلطة، وبينهما خطوط طويلة من الأخبار والأسرار والتواريخ التي لابد أن تعرج علينا في ليبيا من قريب أو بعيد وتظل كثير من الصور والأطياف لصناع الأحداث عندنا أو من الذين وقفوا عليها في الفترة الماضية مجهولة لدى الأجيال . نقرأ لغيرنا. الأحداث تلامسنا. لا رأي لنا فيما يقال. ولادور ينبغي أن نقوم به. ولايبقى شي سوى في أعماق الصدور!!