Atwasat

مشروع الدستور الليبي والفصل بين المستقبل والدولة

سالم العوكلي الثلاثاء 29 ديسمبر 2020, 08:18 صباحا
سالم العوكلي

عطفا على المقالة السابقة بشأن النقاش حول الفصل بين الدين والدولة وطبائع الدساتير المنوط بيها تنظيم هذه العلاقة، أتمنى أن يأخذ هذا النقاش حقه فيما يتعلق بالشأن الليبي المعنيين به، وفي هذه الفترة المضطربة التي نعتقد أن نجاحنا في تجاوزها رهن بمدى التوافق الشعبي على دستور بقدر ما يلبي خصائصنا الاجتماعية والثقافية يضمن قيم المشترك الإنساني من الحقوق الإنسانية التي أسهمت كل الحضارات المجتهدة فوق الأرض في الوصول إليها.

بمجرد انتخاب الهيأة التأسيسية لصياغة الدستور الليبي والشروع في اجتماعاتها بتاريخ 21 أبريل 2014، عكف كل من الأساتذة: زاهي بشير المغيربي، نجيب المحجوب الحصادي، سليمان محمد إبراهيم، من اختصاصات مختلفة، على ترجمة العمل الإحصائي والتحليلي (مشروع الدساتير المقارن: خصائص الدساتير الوطنيية) الذي أعده كل من زكاري إلكن، توم كونزبرج، جيمس ملتون.

وتستند هذه الدراسة المقارنة على 184 دستورا من مجمل 190 دستورا ظلت سارية حتى وقت تحديد عينة هذه الدراسة (2006). وهي خطوة جاءت بشكل سريع لدعم هيأة صياغة الدستور بتقديم منظور كوني لطبيعة الوثائق الدستورية قاعدة ينطلق من مقارنة بين دساتير العالم، وكما يرد في مقدمة المترجمين "كنا نصبو منذ أن خطرت لنا فكرة ترجمة هذا العمل إلى أن نتمكن من إنجاز الترجمة قبل انتهاء الهيئة التأسيسية لمشروع صياغة الدستور من عملها بوقت كاف، إدراكا منا للفائدة العظيمة التي يمكن أن يجنيها أعضاؤها منه، في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ ليبيا، التي قد يرتهن فيها مستقبل شعب بأكمله ووطن بأسره لنجاح تلك الهيئة في مهمتها. غير أن نفعه لا يقتصر بأي حال على المستوى المحلي، بل يطال كل هيئة تكلف بمهمة مماثلة، وكل لجنة يناط بها إجراء تعديلات دستورية، وكل المهتمين بالمسائل الدستورية على وجه عمومهم، أكانوا بحاثا أكاديميين، أم نشطاء يدافعون عن حقوق شرائح وفئات مجتمعية.".

نُشر العمل كاملا على موقع المشروع، وطبع جزؤه المتعلق بالمسح الاستطلاعي الشامل للمسائل والتفاصيل التي يمكن أن تشتمل عليها الدساتير، في كتاب وزِّع مرفوقا بنسخة إلكترونية على أعضاء الهيأة في مقرها بمدينة البيضاء، وخُصص يوم للاجتماع بهم من قبل القائمين على ترجمته، ورغم أن تفاعل معظم أعضاء الهياة مع هذا العمل لم يكن جادا، إلا أن هذه المؤسسات التي تشكل وعاء خبرة مهم قامت بدورها انطلاقا من حس المسؤولية الوطنية والمسؤولية العلمية.

كان القائمون على هذا المشروع متفائلين بشان استعجالهم في ترجمته وتوفيره مرجعا مهما لأعضاء الهيئة بسرعة قياسية، لكن الهيئة لم تصدر صياغتها النهائية لهذا المشروع إلا بتاريخ 25 يوليو 2017 ، بعد ثلاث سنوات وثلاثة أشهر وثلاثة أيام من تاريخ عقد اجتماعها الأول. وبمجرد صدور الصياغة النهائية بدأت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الحديث عنها بين مؤيد عمياني يريد للأزمة أن تنتهي بأية طريقة، وبين ناسف للمشروع مستفيد من هذه الأزمة، أو منتقد للأبواب التي يبحث فيها عن مصالحه الشخصية ولم يجد ما يلبيها، وظلت الأغلبية الصامتة على صمتها لأنها ما عادت تؤمن بشيء، وما عادت تثق في شيء، بعد سنوات عجاف أوصلتها إلى حضيض المطالب المتعلقة بالأمن والقوت.

بعيدا عن هذا الصخب جلس خمسة أكاديميين ممثلين لمركز دراسات القانون والمجتمع ــ د. جازية شعيتير، د. زاهي المغيربي ، د. سليمان إبراهيم ، د. نجيب الحصادي، د. هالة الأطرش ــ لمعايرة هذا المشروع بشكل علمي انطلاقا من المسح الاستطلاعي الشامل للدساتير العالمية الذي سبقت ترجمته. ويُذكر في توطئة هذه المعايرة العلمية أنها “تحتكم إلى معايير موضوعية ومحايدة قدر الإمكان” وأن الدراسة توظف “النتائج التي أسفر عنها (المسح الاستطلاعي الشامل للدساتير العالمية) الذي تضمنه (مشروع الدساتير المقارن)، في تحديد مدى اتفاق واختلاف مواقف المشروع من المسائل المختلفة مع المواقف المتخذة في أغلب دساتير العالم. ولأن هناك تمظهرات للمشترك الإنساني لا تقل أهمية، تشمل العهود والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق المواطنة وحقوق الإنسان، والتوجهات السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم، يلزم في عملية التقويم إيلاؤها قدرا مناسبا من الاهتمام.”.

تصل الدراسة في النهاية إلى تقويم كمي بمؤشرات عددية للمشروع وفق المعايير التي قُوِّم بموجبها، وإذ يؤكد الدارسون نأيهم عن أي انحياز أو عواطف أو ضغوط تخل بالموضوعية بما فيها “الوطنية” التي قد تكون وراء هذا العمل، وليست متدخلة في آليات معايرته الخاضعة لمؤشرات محايدة، فإنهم من ناحية أخرى يفسرون حصول بعض الأبواب على نسب عالية ومن ثم المشروع برمته، بكون “معظم المواد التي حصلت على درجات عالية ليست خلافية وأن معظم المواد التي حصلت على درجات متدنية خلافية. وأسوأ من هذا أن بعض المواد التي حصلت على درجة متدنية مواد حاكمة، بمعنى أن تأثيرها يطال بنية الدولة أو حقوقا أساسية”.

وربما تعود الثرثرة التي اتسم بها هذا المشروع لغاية تتعلق بالتشويش على المبادئ الرئيسية والضياع في التفاصيل، ويتضح من هذه الملاحظة المهمة مدى الضغوط الأيديولوجية التي تسربت داخل المشروع والتي تسببت في عدم التوافق حياله وفي تأخره كل هذه المدة، وفي ارتباكه واكتظاظه بالتفاصيل التي ليست من طبيعة الدساتير، إضافة لسوء وركاكة الصياغة وما تحمله من ثغرات. ولأني في هذا السياق معني بالمادة الخاصة بكون “الشريعة الإسلامية مصدر التشريع." وحسب رأيي الشخصي، هذه النقطة في نهاية الجملة لا توقف الجملة فقط لكنها توقف الدستور عند هذا الحد وما سيأتي بعدها يشبه منهج التربية الوطنية أو الثقافة السياسية. فهي مادة حاكمة ومحصنة تنسخ وتنسف مواد كثيرة تتعلق بالحقوق والحريات ونظام الدولة، وتجعل التقويم الذي حصلت عليه لا معنى له، مع العلم أن نسبة الدول التي اتخذت هذا الموقف من الشريعة في 184 دستورا تعادل 1.1% (كما ورد في ملحق “مشروع الدستور مقارنا بالدساتير العالمية” ، ووفق الصياغة النهائية للدستور تنضم ليبيا لهذه النسبة الضئيلة، وهذا يدل على مدى ضغط طبيعة المرحلة التي كُتب فيها الدستور، وضغط تيار الإسلام السياسي الذي تساهل ــ على غير طبيعته ــ مع باقي التفاصيل التي يعرف أن هذه المادة الحاكمة المحصنة تفرغها من محتواها.

ويتضح هذا التلاعب في ملاجظة د. صالح السنوسي في مقالته المهمة "مشروع الدستور الليبي في ظل المادة السادسة" بوابة الوسط، 1 نوفمبر 2020 . وفي صدد حديثه عن الفقرة الأخيرة في المادة 193 التي تنص على أنه "لا يجوز المساس بالمبدأ الذى تقوم عليه مجموعة من المواد منها المادة الثانية والسادسة وكذلك المتعلقة بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة ووحدة الأرض الليبية. غير أن هذا التحصين في المسودة السابقة التي تم تعديلها كان مقصورا على المادة الثامنة المتعلقة بالشريعة مصدرا لكل التشريعات، وبالتالي فإن تحصين مواد أخرى في التعديل الثاني هو في حقيقة الأمر تحصين للمادة السادسة المتعلقة بالشريعة فقط، ولكن وسط زحمة مواد أخرى ليست هي المقصودة ، فمثل هذا النص يعد أولا مصادرة لعقول الأجيال القادمة وحجرا على العقل البشرى وحرمانه من خاصيتي التفكير والتطور