Atwasat

مدى الحاجة للترميم والصيانة

رافد علي الجمعة 25 ديسمبر 2020, 12:05 صباحا
رافد علي

مضي اليوم العالمي للغة العربية كيوم اعتيادي بسبب الاحترازيات المتبعة لمكافحة كوفيد19، وسط إحصائيات المرض التي لازالت مرتفعة من جهة، وأخبار مقلقة عن تطورات جينية في سلالة الكوفيد19 من جهة أخرى، فقد ألغيت بعض الاحتفاليات، وأخرى تم تأجيلها، وقلة احتفلت ضمن تضييق أكثر لمساحة المشاركة في الاحتفالية.

الشيء الجميل في الاحتفالية باللغة العربية، عموماً، هو الوقوف على عظمة كل المجهودات المبذولة من العلماء الأوائل في عصر التدوين -عصر وضع المصنفات- حيث سارعوا «تطوعاً» لحفظ العربية من التعجيم، وتقنينها لتصبح لغةً قابلة للتعلم ضمن أطر علمية. فمجهودات العلماء الأولى في تلك الحقب التاريخية لم تكن مجهوداً سهلاً، بحكم أن العربية كانت لغة شفاهية*، بمعنى أن مصنفاتها النحوية لم تكن قد وضعت بشكل نهائي بعد؛ مما تطلب من العلماء السفر والترحال لمخالطة القبائل العربية البدوية المنعزلة لأخذ اللغة عنهم، انطلاقاً من اللاشيء، كون لسانهم لم يختلط بالأعجمي، أي ظل لساناً أصيلاً، في فترة تاريخية اتسعت فيها رقعة «الفتح الإسلامي»، ومعه تعددت الألحان واللهجات، ولربما المفردات أيضاً بحكم حركة التجارة وتنقل البشر والتبادل الثقافي أو المعرفي ضمن حدود أرض الإسلام، التي أضحى فيها العرب من القلة. فالقرآن رغم أنه كان مكتوباً، فإن الأمر تطلب تحصينه من اللحن، فالحركات لم تكن معروفة بعد، بما استوجب اللجوء للغة أهل الشعر الجاهلي التي كانت معروفة، أو متداولة، في البوادي المنعزلة والقصية للوقوف على النطق الصحيح. فالقرآن مع أنه كان مكتوباً فقد استوجب الاستعانة بلغة مسموعة «شفاهية» لتبرير نوع ما من القراءة له، كما يرى الجابري في تكوين العقل العربي.

الإبداعية من قبل العلماء الأوائل تتجلى في ابتكار إشارات الترقيم** كالفاصلة والشارحة كأمثلة أولية، وكذلك تتجلى الروح الابتكارية في اختراع فكرة تنقيط الحروف لتسهيل التمييز بينها بما يسهل القراءة، بل إن التجلي الإبداعي يكمن في ترتيب حروفنا الأبجدية في الصورة التي نعرفها اليوم، بما لا يخلو من لمسة فنية ذات حس موسيقي عند الفراهيدي***، بحيث تُميّز الحروف الخارجة من الشفاه، والأخرى الخارجة من الحنجرة، هذه الإبداعية تنم عن حس فني مقترن بالعلم ليصقل في قالب تنظيري متحضر، منح العربية مرتكزا علميا سلسا بتفنن، واضعاً إياها بصف أي لغة حية ومقروءة في حينه، وإلى الآن.

الاحتفالية في يوم العربية لازالت حالة ابتهاجية صرفة لا تلامس مشاكل لغتنا الفصحى، كون اللغة هي المجال الذي يفكر فيه المرء. فالعربية، كأي لغة بالعالم، هي مرآة عاكسة للناطق بها في كيفية تفكيره، وكيف يرى العالم من خلالها. فلغتنا التي نحتفي بها في كل عام، من ضمن مشاكلها الأساسية أننا نحتفي بها بكونها لغة قواميس ومعاجم، فنحن نتغاضى عن حقيقة أن فُصحانا تعاني من مشاكل تكوينية دقيقة، وأنها لازالت تحيا في نطاق «زمن ثقافي» يختلف عن زمننا الثقافي الحالي، أو المعاصر.

اللغة العربية، التي جمعت وسننت وقوننت، كان الأعرابي في البادية القصية والمنعزلة هو المقياس الأساس في عملية تسجيلها في زمن عصر التدوين، وقد أثبت العديد من المتخصصين أن الأعراب كان منهم من يتلاعب بالعلماء بقصد الاسترزاق. كما أن اللجوء لاعتماد الأعرابي مقياساً للنطق، ولمعرفة مدى عُروبة الكلمة وأصالتها ضمن البيئة الصحراوية، جعل من العربية، كلغة، عوضاً عن أنها لغة جامدة بحكم البيئة القاحلة، جعلها لغة تُقصي لغة العرب في الحاضرة. فابن منظور، صاحب «لسان العرب»، مثلاً، أخرج كتابه في بلاد النيل، مقتصرا على الأعرابي، ومهملاً العربية في مصر بما فيها من صناعات وتقدم، وبهذا تكون العربية التي بين أيدينا الآن لغة معجمية محصورة في عالم البداوة المنعزل عن الآخر، وبالتالي جاءت بعد لسان العرب المعاجم والقواميس على ذات الشاكلة، حسب رأي الجابري في تكوين العقل العربي، وبسبب التقليد الصرف وتلخيص الملخصات، حسب تعبيرات ابن خلدون في توصيفاته «لأزمة الانحطاط» في تاريخنا العربي والإسلامي.

لقد كان لحصر الفراهيدي الألفاظ الممكنة لغوياً وتركيبها لحصر الأفعال المستنتجة من مصادرها الثنائية أو الثلاثية أو الرباعية أو الخماسية، أن برهن على أنه صاحب عقل رياضي بديع، إذ أخذ يركب الحروف الهجائية العربية بعضها مع بعض مستنفدا بذلك كل التراكيب الممكنة، فيبقي المفردة المعروفة ويهمل غير المعروف منها، وهذا ينتقده البعض على أنه عملية تجعل من جمع اللغة عملية التماس سند واقعي - في البادية- لفرض نظري يضعه عالم. وبذلك يكون رجل العلم قد حكم على أطروحته اللغوية المنشودة بالجمود، وعدم التطور. من ضمن المؤلفات المهمة حول هذه الإشكاليات كتاب محمد عيد، الرواية والاستشهاد باللغة.

لا شك أن الاحتفال بالعربية من المناسبات السنوية الطيبة، ولربما علينا أن لا نقف عند المشارف لنهلل للغتنا في حالة تناسٍ تام لمشاكلها كلغة، ولمشاكلنا فيها باعتبارها أداة للتواصل بيننا، ونافذة نرى بها العالم ونفكر من خلالها. فاللغة التي بنيت في جو ثقافي معين سيصعب عليها أن تنسجم مع جو ثقافي جديد، ما لم تكن قادرة على التكيف بمنطق اللحظة والعصر. عربيتنا، كلغة شفاهية أولاً، أضحت مكتوبة في ظل عصر التدوين، وقد اشترط أن تأخذ اللغة من البدوي «خشن الجلد وفصيح اللسان»، ما يجعلها لغة حبيسة ذاك البدوي بتلك اللحظة بعينها، فهي، رغم أنها قد اكتسبت مرونة شديدة في الاشتقاق اللغوي في مفرداتها، أصبحت بذات اللحظة لغة تعلو على التاريخ لأنها لا تستجيب لاستحقاقات الزمن، لأن العلماء الأوائل كانوا قد وضعوها في قوالب صورية تحصنها من أي تغير أو تطور، تماماً كما كان الإنسان في البادية النائية، كما يرى الجابري في كتابه المذكور آنفاً.
لست هنا للهجوم على أهلنا الكرام في البوادي، ولكنني فقط أحببت أن أنوه إلى ضرورة الانتباه إلى اللغة التي نحتفل بها سنوياً بأن نعرفها أكثر، وأن نعمل على أن نصونها بشكل أعمق وأفضل، بما يسمح لنا بفهم مدى التغاضي، ومدى الحاجة على الأقل للترميم والصيانة في تتمة أولى وأخيرة.

منظومتنا. فنحن أمة ليست بخير.

* اللغة العربية كانت مكتوبة قبل الإسلام بزمن طويل، ولهذا تم تدوين القرآن في حينه. (المحرر).
** علامات أو أداوات الترقيم دخلت العربية سنة 1912. (المحرر).
*** ترتيب الفراهيدي للأبجدية يبدأ من حرف العين، وليس بالترتيب الذي نعرفه الآن. (المحرر).