Atwasat

معوقات النمو ومهلكات الازدهار (1-2)

أحمد معيوف الثلاثاء 22 ديسمبر 2020, 01:18 صباحا
أحمد معيوف

"عندما تسود المدنية الحقة في أي دولة فإن

حياة أفضل تتاح لكافة أبناء الشعب"
نييل فيرجسون

أذكر أني ذات مرة سألت زميلة من البرتغال عن تعداد السكان في بلدها، فأجابت أن عدد سكان البرتغال في حدود 10 مليون نسمة. لا أنكر أني فوجئت بجوابها، فتقدير بسيط لعدد سكان البرتغال إبان حقبة المستعمرات لا أعتقد أنه قد يتجاوز 2 مليون نسمة، والسؤال: كيف استطاع هذا العدد القليل أن يحتل جزءا من أمريكا الجنوبية وقطع كبيرة من أفريقيا وجزر جنوب شرق آسيا، بهذا العدد البسيط من السكان؟. ظل هذا السؤال موضع حيرة بالنسبة لي حتى وقت قريب، إذ أرسل لي أستاذي الفاضل الدكتور جمال الدين خليل رابط موقع يعرف باسم تيد يهتم بنشر المعرفة، يحتوي على محاضرة ألقاها مؤرخ بريطاني معروف ومشهور يدعى نييل فيرجسون.
يعتقد المؤرخ فيرجسون في كتاب له بعنوان "الحضارة: الغرب والآخرون" أن العالم يعيش مرحلة نهاية هيمنة الحضارة الغربية وصعود الحضارة الصينية، ويتساءل في كتابه – ليس عن إمكانية حدوث صدام بين الشرق والغرب– ولكن حول احتمال الانهيار المفاجئ لانهيا للغرب. فهو يعتقد بأن كل الحضارات التليدة انهارت بشكل مفاجئ، ويورد مثال الحضارة الرومانية التي انهارت بشكل كامل خلال عقود قليلة لا تتجاوز الثلاة، ويحذر من أن الآداء الجيد الذي تعمل به أنظمة الغرب ليس إلا مظهرا، لكن واقع الحال يخالف ذلك. فمرحلة التحول من التوازن إلى الانهيار قد يسببها اضطراب بسيط، الأزمة المالية كفيلة بفعل ذلك، وكذلك جائحة صحية كجائحة الكورونا.

قراءة نييل فيرجسون للتاريخ دقيقية وواقعية، لذلك نال ثقة رجال السياسة وأصبح مؤثرا في مشاوراته، وقد استعان به الجمهوري جون ماكين في حملته الانتخابية ضد الديمقراطي أوباما، وكان مؤيدا له ثم تراجع عن تأييده لماكين وانحاز إلى أوباما في انتخابات الرئاسة الأميريكية العام 2008. كان من مؤيدي حرب العراق وحجته، كما أوردها في لقاء صحفي، "جيد أن نجلس هنا في الغرب نتمتع بالدخل العالي والحياة السهلة، ثم نقول ليس من الأخلاق أن ننتهك سيادة دولة أخرى. إذا كان التدخل سيؤدي إلى الرفع من المستوى الاقتصادي والمعيشي للعراقيين، فلا يجب أن نتجاهل التدخل".

وقد تأثر مايكل چوف، الذي كان حينها وزيرا للتعليم البريطانى في حكومة المحافظين، بمحاضرة ألقاها فيرجسون عن تدريس التاريخ، وأدرك أهمية ملاحظاته كمؤرخ، فقرر تشكيل لجنة من كبار المؤرخين لإعادة النظر فى منهج تدريس التاريخ في بريطانيا.

كان من أوئل من تنبه إلى احتمالات انهيار النظام الاقتصادي العالمي والأزمة المالية التي عانى منها العالم التي تفاقمت وانفجرت في سبتمبر 2008 بسبب انهيار بنك الأخوة ليمان، وذلك في مقال له في العالم 2006، أي قبل حدوثها بزمن ليس بالقصير.

كتاب: "الحضارة: الغرب والآخرون" يحاول فيه المؤلف أن يجيب عن سؤال مهم: لماذا استطاع الغرب أن يسيطر على العالم ويتحكم في شعوب الكثير منها أكثر عددا وأعظم حضارة؟ ربما لا يختلف هذا السؤال عن ذلك الذي راودني شخصيا وافتتحت به هذا المقال.

في محاضرة رائعة ألقاها الأستاذ فيرجسون عن موضوع كتابه تحدث عما سماها "مهلكات الازدهار الست ـــ "The 6 Killer of prosperity " بدأ محاضرته بالحديث عن البلايين، بلايين البشر وبلايين الدولارات. قال إن تعداد سكان الأرض، منذ أن بدأت الخليقة حتى الآن، وصل الى 109 بليون نسمة، من منهم على قيد الحياة لا يتجاوز 6% من هذا العدد، 60% عاشوا في آسيا، وجلهم كانوا، أو مازالوا فقراء، ولم يعمر طويلا!.

بالنسبة لبلايين الدولارات، فقد قدرت ثروات العالم بما يزيد عن 195 الف بليون دولار، ويقول إن جل هذه الثروة جمعت بعد العام 1800 م (هذا له دلالاته كما سنرى)، وجلها تقع في قبضة الغرب، إذ إن 19% من سكان العالم هم من الغرب (ليس الجغرافي بالطبع، وانما السياسي) ويملكون 80% من ثروات العالم.

في الإحصائية التي عرضها على الشاشة، أورد مقارنة عن الدخل القومي للفرد بين أمريكا والصين، من ناحية، وبريطانيا والهند، من ناحية أخرى. منحنى الدخل يتناول الفترة الزمنية من العام 1500 م وحتى العام 1970. خلال الفترة بين 1500م و1800 م، أي على مدى ثلاثة قرون طويلة، تكاد تكون الدخول متقاربة بين الآسيويين ونظرائهم الأمريكان والبريطانيين، وفي المتوسط كان الصيني أغنى من نظيره الأمريكي. ثم انقلب الميزان، إذ أصبح دخل الإنجليزي يفوق نظيره الهندي عشرة أضعاف، ويفوق الأمريكي نظيره الصيني بعشرين ضعفا!! أليس هذا تفاوتا مخيفا يحتاج إلى تفسير؟؟؟!!!.

فيرجسون لا يرد هذا الأمر إلى أسباب اقتصادية صرفة، بل يرجح أن تكون خلفها أسباب سياسية بامتياز.

يقول ان الدول العشر التي قادت فيما بعد عملية الاستعمار كانت في الحضيض قبل العام 1500م، وكانت تملك فقط 5% من مساحة الأرض، وشريحة سكانها لا تتجاوز السدس ودخلها المحلي يقل عن خمس الدخل العالمي، بعد العام 1913 أصبح الغرب يسيطر على ما يقرب من 60% من الأراضي وأصبحت ثرواته تفوق ثلاثة أرباع الدخل العالمي، في حين تعداد سكانه لم يزد عن ربع سكان العالم.

من اللافت للنظر أنه لم يحمل الاستعمار وزر التفاوت في ثرواث العالم وحظ الشعوب من هذه الثراوت – وهو محق في ذلك – فقد فند أن يكون الاستعمار السبب، إذ إن العالم أجمع مارس الاستعمار لحقبة من حقب التاريخ، فالمغول والأتراك، كما يقول، أيضا مارسوا الاستعمار. هذه حقيقة. وزاد على ذلك بالقول إن الاختلاف في حظ الشعوب من الثروات تفاقم بعد مرحلة الاستعمار.

هذا السؤال المطروح، والذي نحاول أن نجد عليه جوابا، سبق وأن طرحه صمؤيل جونسن في روايته "أمير الحبشة" حيت طرح السؤال على لسان الأمير في صيغته التالية "كيف توصل الأوربيون إلى القوة، كيف لهم ان يستطيعوا الذهاب لزيارة بلدان آسيا وأفريقيا لغرض التجارة وللاحتلال؟ ألا يستطيع الأفارقة والآسيويون فعل ذلك؟ أليست الرياح التي تجلب سفنهم إلينا قادرة على حملنا إلى شواطئهم؟".

أيضا، كما ورد في المحاضرة، فإن عالما تركيا يدعى إبراهيم موتيفريكا، وهو مسئول عثماني وأول من أدخل الصحافة إلى تركيا، يتساءل "كيف تمكنت الأمم النصرانية التي كانت ضعيفة مقارنة بأمم الإسلام من استعمار الكثير من الدول، وتمكنت أيضا من هزيمة جيش الدولة العثمانية القوي؟"، وقد كان جوابه كالتالي: "لأن هذه الأمم لها قوانين ولوائح ومؤسساسات صنعت بعقل ومنطق".