Atwasat

أقوال في الفصل والوصل بين الدين والدولة

سالم العوكلي الثلاثاء 22 ديسمبر 2020, 01:13 صباحا
سالم العوكلي

في مارس 2011 أجرى معي الصحفي، بورزو دراغي، من فاينانشيال تايمز مقابلة في مقهى النجمة بدرنة، استأذن مني بعدها في أن يحيل هذه المقابلة إلى مقال، ونشرت المقالة تحت عنوان ترجُمته: "جمر الليبرالية العلمانية مازال متقدا في ليبيا" مرفقة بصورتي بلحية وصِفتْ في المقال بأنها لحية علمانية وليست إسلامية، ولا أعرف كيف توصل إلى هذه النتائج، أو كيف اعتمد هذا العنوان، رغم أن حديثنا عن العلمانية لم يتجاوز سؤالا طرحه ما إذا كنت علمانيا؟ وكانت إجابتي: لا أدعي هذا الترف، فأنا مجرد مواطن ليبي أعيش عصري، وليبيا لا يوجد فيها تيار علماني حقيقي أو ليبرالي. وحين اعتبرني استثناء عمن سبق أن قابلهم، قلت له كل من يجلسون في هذا المقهى ومن يمرون في هذه الشوارع يفكرون مثلي، لكن وسائل الإعلام الدولية أو الصحف الكبرى حين زارت درنة، بعد انتفاضة فبراير، كانت تبحث عن المتشددين وعن العائدين من سجن جوانتانامو لتجري معهم حوارات وتضع صورهم على الأغلفة، والأمر لا يعدو كونه بحثا عن الإثارة وليس عن حقيقة ما يجري. فالصحفي، قبل أن يقابلني، كان قد أجرى حوارات مع متطرفين إسلامويين. وربما لهذا السبب رأى في كلام عادي سردته عن مفهومنا للتغيير والمستقبل شكلا من أشكال العلمانية، حتى وإن ظهرت في مقالته بنفحة سياحية التقط معها الصحفي الغربي صورة .

يحيلني هذا الحدث إلى مناقشة مسألة العلمانية، وكيف يمكن الحديث عنها في مجتمع بمعزل عن رصيدها النظري الذي دُشن في مجتمعات أخرى تلقفتها بالتحليل والجدل والتفسير لعدة قرون قبل أن تصل إلى نصوص الدساتير، وانطلاقا من بعض مما ورد في مقالة الكاتب الهادي بوحمرة المهمة "قول في الفصل بين الدين والدولة" المنشورة ببوابة الوسط، 9 ديسمبر 2020، وملاحظات الكاتب عمر الككلي المهمة أيضا في مقالته عن بعض اختلافاته معه "النص على العلمانية أو الدين في الدستور" والتي عبرت عن وجهة نظري ولن أكررها هنا، سأحاول نقاش هذه الرؤى الثرية لمسألة مسكوت عنها لدينا أو مطروحة بشكل موارب رغم أهميتها القصوى.

يبدو الحديث عن العلمانية في مجتمعنا مجازفا ومغاليا بقدر الحديث عن السفر في الفضاء أو الفجوات العلمية والرقمية التي تفصلنا عن العالم. غير أنه من أجل تجنب هذه الصعوبة أو هذا المصطلح المستفز، الذي اتهم به في ليبيا كل من عارض تسيس الدين، أو من تحدث عن العلم كنهج لحل أزمات ليبيا، سأناقش مسألة فصل الدين عن الدولة عبر استخدام مصطلح الدولة المدنية المستساغ في الوجدان الليبي مع أنه قريب الصلة بمفهوم الدولة العلمانية، فمصطلح الدولة المدنية برز في الأدبيات الأوربية كمقابل للدولة الدينية، وحتى عقود الزواج التي تُبرم خارج المؤسسة الدينية تسمى مدنية، وتعريف (الدولة المدنية) الأكثر رواجا، جزء منه مفاده: من أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة. كما أنها لاتعادي الدين أو ترفضه. حيث أن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية.

حين نتحدث عن رأي يتعلق بمنع الأحزاب ذات المنشأ الديني في الدستور أو قانون الأحزاب وقانون الانتخابات، عادة ما تكون الردود بالاستشهاد ببعض أحزاب الدول الغربية الديمقراطية التي تحمل في اسمها مفردة (المسيحي) ومثل هذه المقارنات قد تقع ضمن مغالطة "حتى أنت" المنطقية، لأن المدلول الذي يشكل الصورة الذهنية مختلف عن الدال اللغوي الذي ورد في النص وفق اعتبارات تتعلق بالسياق الثقافي المختلف للحالتين. يقول غوتلوب فريغه: "للمنطق غايات كثيرة ليس أقلها الكشف عن الفخاخ التي تضعها اللغة في طريق الفكر". وقد جادل الككلي في هذه الجزئية . وربما من هذا المنطلق يمكن نقد ما ورد في مقالة الهادي التي سرد فيها الكثير من دساتير الدول الديمقراطية في الغرب التي تثبت مقولات دينية فيها، والأمر لا يتعلق باختلاف دوال ومدلولات فقط ولكن باختلافات تاريخية بنيوية وسيرة عقل تجادل فيها اللاهوت مع الفلسفة والفكر طيلة قرون في أوربا أفضت إلى أن يصبح الدين أو الإيمان مسألة فردية حين تتصادم مع غايات المجال العام.

حين يذكر أن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع يختلف الأمر عن تحديد هوية الدولة الدينية، أو بداية الدستور باسم الله أو احترام الدين أو نبي الدين، لأن هذا نوع من الإنشاء التمهيدي، وليست موادَّ تترتب عنها تشريعات وقوانين وأحكام تتعلق بإدارة المجتمع، كما في تثبيت مبدأ الشريعة مصدر للتشريع، أما قول"يعتبر الثالوث المقدس مصدر السلطات" في دستور أيرلندا، فناتج عن صراع مذهبي حاد، وربما ورود هذا النص ما جعل الحروب المذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت تستمر في أيرلندا حتى بداية الألفية الثالثة.
من الممكن أن يرد في الدستور باب للحريات المختلفة، لكن موادها ستكون منسوخة تلقائيا أو منقوصة وفق هذه المادة التي عادة ما تكون حاكمة ومحصنة في بعض دساتير الدول الإسلامية، وحتى ورودها جزئيا أو احترازيا لا يقلل من نفاذها وسلطتها، باعتبار ذكرها كمصدر أساسي أو أحد المصادر، يُفسر بكون القضايا التي لم تبث فيها الشريعة من الممكن أن تحكمها قوانين وضعية، والمسائل التشريعية التي لا يوجد لها أصل في الشريعة محدودة باعتبار التشريع في النصوص الإسلامية، باختلاف المسيحية مثلا، يتطرق إلى كثير من التفاصيل التي تخص الحياة اليومية وطرائق العيش، وحتى المؤسسات الاقتصادية والمالية والأزياء وحقوق المرأة والميراث وطرق التربية والمناهج، وصولا إلى الفنون والاحتفالات ومتطلبات السياحة كقطاع تنموي.. إلخ، ما يجعلها تحت سلطة مؤسسات الإفتاء أو الأوقاف.

من الممكن أن نمضي مع استدراك الهادي الذي وضح فيه احترازه بكون "الدستور الذي لا إلزام فيه للاجتهادات الفقهية، ويُخضع ما يمكن أن يقنن منه لمبدأ الملاءمة وللأطر القانونية، وفي حدود الضوابط الدستورية، لا يستقيم أن يوزن بنفس ميزان الدستور الذي ينص صراحة على تعريفٍ ملزمٍ للشريعة، ويمنع الخروج عن أراء مذاهب فقهية معينة، أو يقيد المشرع بمنهج فقهي أو مذهب معين، وينتهي إلى إخضاع القانون للأطر الفقهية.". وهذا الاحتراز يتسق مع تعريف الدستور العلماني الذي يسعى لإقامة دولة مدنية، لكن حقن الدستور بأي مغازلة فيما يخص الشريعة المتعلقة بحياة الناس اليومية هو محاولة لتركيب المعاني الأزلية على المعاني الظرفية، أو ما يسمى مبدأ التلفيق وعزل النص عن تاريخيته، كما طرحه المفكر نصر حامد بوزيد الذي لم يمنع دستور ــ بهذه الاحترازات التي ذكرها الهادي ــ الحكم عليه بالردة وتطليق زوجته منه، وعجز فريق دفاعه القانوني عن تبرئته، ما اضطره لأن يلوذ بمنفى الدساتير العلمانية الأكثر تفاديا للتلفيق. ومشروع الدستور المطروح الآن في ليبيا أكثر تشددا فيما يخص نفاذ الشريعة من الدستور المصري آنذاك.

يقول الهادي " النص على الدين الرسمي في دستور دولة لا يوجد فيها أقليات دينية، ويُعد الانتماء الديني فيها عامل تماسك اجتماعي وسياسي، لا عامل فرقة وشقاق، ويقطع- في نفس الوقت- بمنع التمييز وبحظر التكفير وخطاب الكراهية والعنف، لا يمكن النظر إليه بنفس الكيفية إلى النص على ذلك في دولة تتعدد فيها الأقليات الدينية". رغم أني أميل إلى أن ضمانة عدم العنف والتماسك الاجتماعي لا تعزز إلا بدستور (مدني) يضمن حق المواطنة والتعددية الثقافية وحرية الاعتقاد، وسياق "دين رسمي" لا يتعارض مع مفهوم الدولة المدنية فحسب ولكن يتعارض مع روح الدين نفسه، ومن المغالطات التي تشهر في وجه العلمانية للتشويش عليها كون المجتمعات الإسلامية التي لا توجد فيها أقليات دينية لا تحتاج إلى نظام علماني، وهو فهم خاطيء للعلمانية مصدره أنها مقتصرة على ضمان التعايش بين المكونات الدينية المختلفة، غير أنها، فضلا عن هذه الغاية، تعني الانزياح بما هو لدنّي إلى دنيوي فيما يخص إدارة شؤون المجتمع، وبالتالي تشكل الدولة المدنية التي تفصل بين الدين والمجال العام أرضية مهمة لإقامة عقد اجتماعي يضمن مبدأ فصل السلطات وتعزيز حقوق الإنسان مواطنا، وليست مجرد وصفة للتعايش أو التماسك الاجتماعي. فالمادة التي تضمن حق حرية الاعتقاد مثلا لا تشمل الأقليات الدينية فقط ولكن تشمل حرية الفكر وحرية التعبير وتحمي حرية الاعتقادات المختلفة في المجتمع المتجانس مذهبيا.