Atwasat

التعصب

محمد عقيلة العمامي الإثنين 21 ديسمبر 2020, 01:17 مساء
محمد عقيلة العمامي

على الرغم من كثرة ما قيل من نقد لشخصية: «أوليفر جولد سميث»، إلاّ أن اقتراح الكاتب الإنجليزي الشهير صموئيل جونسون، الذي اشتهر باسم «الدكتور جونسون»، بأن يكتب على قبره «الذي تناول أغلب أساليب الكتابة، وجمّل كل ما تناوله»، كانت شهادة – خففت وجمّلت – كل ما قيل عنه.

ولد، كاتب هذا المقال، سنة 1728 وتوفى سنة 1774، وعلى الرغم من صغر سنه يعد أحد الممتعين من أدباء القرن الثامن عشر. قيل عنه: «عاش ثلاثين عاما يأخذ، وأنفق 15 عاما في العطاء». ثلاثون أمضاها تلميذا كسولا، يسرق الفاكهة من الأشجار، طالبا عنيدا، يمتلك ملكة موسيقية، يتقاضى منحة من كليته، يقلد الأغنياء، حاول أن يتعلم القانون واللاهوت، ولكنه لم يفلح. أخفق في امتحان كلية الجراحين، عمل موسيقيا متجولا، صيدليا، مدرسا، ثم مصححا لغويا، ومنها اتجه نحو الكتابة الصحفية.

سنة 1759 أصبح محررا لمجلة لم تستمر طويلا، ومن بعدها كتب لمجلة الدكتور جونسون الشهيرة حينها (السجل العام). انتظمت مقالاته، وهي التي صاغها كرسائل ما بينه وبين فيلسوف افتراضي يعيش في لندن، ثم جمعت سنة 1762 في كتاب عنوانه (مواطن عالمي) اشتهر من ورائه وأصبح أحد التسعة المؤسسين لنادي الدكتور جونسن الشهير، واكتملت شهرته من نشره: ديوان قصائد شعريه بعنوان (المسافر) ورواية سهلة ممتنعة عنوانها (قسيس ويكفيلد) ورواية (القرية المهجورة) ومسرحيتين نجحت إحداهما نجاحا باهرا وهي (إنها تتمسكن حتى تتمكن). وصف بأنه مغرور، وغير أهل للمسؤولية، ولكن الدكتور جونسون، صاحب «السجل العام» كان له رأي آخر. من كتاب "أروع المقالات" انتقينا ولخصنا له العمل التالي:

«التعصب للقومية»
ولعل المقال أعجبني لأنني مررت، مثلما مررنا جميعا، بما أحس الكاتب. فنحن الليبيين لا نختلف عن المِلل كلها، بقناعتهم بأنهم متميزون بكل شيء جميل، سواء أكان شجاعة أو فحولة، أو كرما وكل الصفات الحميدة - من دون أن ننظر إلى عوج رقابنا-. وغالبا ما نحجب صفات الآخرين الحميدة، ونلصقها بأنفسنا، تماما مثلما يحجب الآخرون الصفات الحميدة التي خصَّوا بها أنفسهم فقط. نحن نشترك مع التوانسة، والمغاربة والجزائريين والمصريين، واللبنانيين، والخليجيين. ونستطيع أن نقول العرب كافة! بمسألة التعصب، والقناعة بأننا الأفضل. وأنا لا أشك أبدا أن الأفارقة يرون ما نرى، وكذلك الأسيويين، وبالتأكيد بقية العالم الغربي قبلما يتطور فكريا!

المقالة تتناول هذا الموضوع، ويلخصها الكاتب، بقوله أنه استرق السمع لنخبة، كان يجلس بجوارها في مكان عام، وكان قد تصدرها أحدهم، إذ أزاح قبعته للخلف، واصطنع شخصية المفكر وقال: «.. الهولنديون حزمة من التعساء البخلاء، والفرنسيون ليسوا إلاّ جماعة من المتملقين الأذلاء، والألمان أمة من السكارى المدمنين للخمر النهمين في الأكل، والإسبان طغاة متغطرسون - ولا أدرى كيف سقط من تقييمه الإيطاليون رواد النهضة الأوربية- وانتهى إلى أن الإنجليز هم وحدهم الذين يبزون شعوب الأرض جمعاء!».

يقول الكاتب، إن ملاحظته قوبلت بالزهو من بقية الإنجليز المتحلقين حول ذلك المتعصب، ولأنه تظاهر بأنه ليس مهتما بما يقول، لم يدعه في شأنه، بل واجهه متسائلا إن كان يُوافقه الرأي. وقال: «ولأنني كنت ممتعضا، فأجبته بعدم موافقتي لأنه، ليصدر المرء حكما، كحكمه، ينبغي أن يطوف على هذه البلدان ويعيش بينهم قبل أن يصدر حكمه؛ ثم الإنجليز وإن كانوا شجعانا وكرماء فإنهم عنيدون مندفعون، متهورون، يبتهجون أكثر مما يجب في الرخاء، ويبالغون في اليأس وقت الشدة". وبدا للكاتب أن رأيه لم يعجب أحدا، فما كان من ذاك المتعصب إلاّ أن وضع رجلا فوق أخرى، وقال ساخرا: "أتعجب من أولئك الذين يعيشون في وطن لا يحبونه، ويتمتعون في الوقت ذاته بحماية الحكومة وخيراتها، ولا يكنون في أعماقهم حبا لها».

واستطرد كاتب المقال : «انتبهت إلى أنه يتعين عليَّ أن أغادرهم، فلقد منحتهم الفرصة لأن يسيئوا الظن بوطنيتي ومبادئي السياسية، وأنه من العبث مناقشة الموضوع معهم، فغادرتهم غير آسف على قراري».

نحن، وأيضا غالبية الدول العربية، وليس جميعها، يرون، ما أعلنه ذلك الذي أصدر حكمه النهائي واختتمه بحرمان المعترض من حقوقه في إعلان رأيه، ولو استمر النقاش لأتهمه بخيانة الوطن وقد ينفذ فيه القصاص في الحال.

والعجيب أن الإنسان يضيقها على نفسه، ورب الكون وسعها، مؤكدا أن أرضه واسعة، والتنقل فيها حق قرره سبحانه وتعالى لهم. ولعل سقراط هو من أعلن: «أنه مواطن عالمي» والمفكر «هيغل» قال: «العقل يجمع الناس والفهم يفرقهم» وعندما يقرر المرء أنه مواطن عالمي يعني أنه منتمٍ للإنسانية جمعاء، وليس لجزء منها.

والفكرة التي تناولها مقال «أوليفر جولد سميث» هي التعصب لمساحة صغيرة من الكون لا تعني مطلقا أنها انتماء للإنسانية كافة ولكن لجزء منها فقط، والانتماء للوطن أمر غاية في الرقي والعرفان بالجميل، ولا ينبغي أن يجعل المرء متعصبا بدرجة يتطاول فيها على بقية خلق الله. لا يحق لأحد أن يُقيم مفاهيم الناس في أوطانهم، أو ينظر إليها بدونية.

ويختتم «أوليفر جولد سميث» مقالته متسائلا: «أليس من الممكن جدا أن أحب بلدي، دون أن أكره شعوب البلاد الأخرى؟ أليس من الممكن أن أدافع عن قوانينها وحرياتها، بشجاعة وعزم أكيد، دون أن أحتقر باقي سكان العالم؟..»

ثم وهذا أمر لا علاقة له بموضوع مقال السيد سميث: «المواطن العالمي» لا يعني ذلك الذي سرق قوت أهله وجيرانه وأمنهم واستقرارهم، وقرر أن ينتمي للإنسانية! لأنه ببساطة أصبح لصا عالميا، وليس مواطنا عالميا، وأيضا لا علاقة له بالإنسانية مطلقا. لا يحق له أن يضع رجلا فوق أخرى، وسط شلة تنافقه، في صالونات الفنادق الباذخة، في أي مكان في العالم، وينتقد قناعات البلد الذي لجأ إليه. إنه بالتأكيد لا يجرؤ على الإفصاح عن آرائه ونقده في مقاهيها، وأسواقها الشعبية.