Atwasat

خَوَّان غويتيسولو و«الكسكسي» إرثاً ثقافياً للإنسانية

سعاد الوحيدي الخميس 17 ديسمبر 2020, 02:05 مساء
سعاد الوحيدي

رغم الدور الذي لعبه المرحوم عبد القادر المالح من أجل إدراج الكسكسي ضمن الإرث العالمي للإنسانية، يأتي الاعتراف بهذا الطبق بعد رحيله.

عندما حدثني الراحل خَوَّان غويتيسولو (الكاتب الإسباني الكبير)، نهايات القرن الماضي عن اجتماع مراكش مع اليونيسكو، بشأن تحديد مفهوم "التراث الشفوي للإنسانية"، (في إطار "إعلان روائع التراث الشفوي والتراث اللامادي للإنسانية")، وآليات الاحتفاء بهذا الموروث على نحو متمم للاحتفاء بالإرث المادي/الطبيعي للإنسانية، كنت أستمع إليه في نشوة فكرية تَحلَّق في أفق الممكن، الذي يبدو صعب التحقيق.

ورغم أن موضوع جلستنا في باريس ذاك اليوم كان بخصوص النضال التحرري لشعب الشيشان، (وكانت تجمعنا صداقة نضالية عميقة)، إلا أنه انتقل بِنَا للغوص في تفاصيل ماورائيات فكرته. وبالتحديد جذور ذلك فيما اكتشفه من مخزون هائل من الإرث الشفوي للذاكرة البشرية، تحتضنه "حلقات الحكواتية" في ساحة جامع الفنا بمراكش. كان مبهوراً بهذه الساحة الأسطورية التي تتوسط المدينة الحمراء، التي اختار المقام بها بعد فراره من نظام فرانكو القمعي. وصار يتقاسم المقام بينها وبين باريس؛ موطن زوجته (كان يقول أنه لا ينفك يطير كسفر النوارس بين المدينتين)، وإن حازت مراكش بصلة القلب والمقام النهائي. حيث سكن رأسه مفهوم "الحلقة"، الذي أدخله فيما بعد إلى القاموس العالمي، وهو يشاهد الناس تتحلق حول الحكواتية يسردون تفاصيل مذهلة من ذاكرة الإنسانية؛ عبر حكايات وروايات عجائبية التفاصيل. وشدد بالخصوص على: "لقد أقنعت فريدريكو مايور بالأمر (مواطنه الإسباني، المدير العام لليونيسكو في ذلك الوقت)، وعلينا أن نتكاتف جميعاً لإخال هذا المفهوم لليونيسكو". ولن أدخل هنا في تفاصيل ما حدث بعد ذلك، ونضال هذا الثائر الإسباني للانتصار لقيم الإرث الشفوي للبشرية، لكن الفكرة دخلت التاريخ، وصار"الإرث اللامادي للإنسانية" محل اعتراف نهائي، تصدره أعلان "ساحة جامع الفنا" (مع قائمة عالمية مذهلة)، عام ٢٠٠١ كإرث ثقافي لامادي للإنسانية.

في هذا الصدد تعلمت من خَوَّان غويتيسولو الكثير، من ذلك الإصرار على الأفكار المستحيلة، ولكن خاصة عشق جامع الفنا. أذكر أنه قال لي إنك لن تفهمي ما أقول حتى تجلسي معي في مقهى بذاته، في مكان بذاته (في ساعة بذاتها)، لتعانقي المشهد الأسطوري الذي لن يكون مُتاحاً في أي مكان آخر من العالم. وتعمد أن لا يشرح لي أكثر، مستفزاً فضولي للمجيء لمراكش. وحتى التقينا هناك، في ذاك المقهى الذي قصده، وحيث أخذنا نحتسي القهوة المراكشية خمس دقائق قبل الساعة المُشار إليها.

كنت أتأمل، وأنا أرتشف قهوتي بمتعة متعالية، بوابة ضخمة/عريقة، تبدو وكأنها مدخل لقصر هائل. (وهذا ليس غريبا على مراكش التي تحتضن في جوفها مئات "الرياض"، التي تشبه قصور الخيال)، وأخذت أتساءل في داخلي يا ترى ماذا يحمي هذا الباب من كنوز؟ عندما انفتح الباب على مصراعيه على حين غرة، على تمام الساعة الثانية عشر ظهراً. وتدفق منه في سرعة فلكية عدد هائل من العربات المزركشة التي تتسارع لتأخذ موقعها في ساحة جامع الفنا. ليتحول المكان بسرعة البرق، إلى مطعم هائل (في الهواء الطلق)، لمختلف أصناف الأكل والشرب؛ الأوسع الذي رأيته في حياتي.

وشرح لي خَوَّان غويتيسولو متلذذاً بدهشتي، كيف أن هذا المشهد يتكرر كل يوم مع ساعة الغداء، وعند ساعة العشاء، وفق ما لم يشاهده أبدا في مكان آخر. وكيف أن الحكواتية، ومروضي الثعابين أو باعة المنتوجات التقليدية.... يتركون المكان للمطاعم المتحركة المتسارعة نحو الساحة، في أريحية استثنائية. ثم كيف أن هؤلاء سرعان ما يتركون الساحة مع انتهاء وقت الغداء، بهدوء مماثل، ليعود إليها الذين من شأنهم أن يعطوا لرواد الساحة غذاءً آخراً يتعلق بالقلب أو الروح أو العقل. وإن هذا التكامل والتناسق العجائبي بين الأدوار (ذات العلاقة بالإرث الإنساني) الذي يتحقق على هذه الساحة، هو ما جعله يفكر في ضرورة الاحتفاء بها على مستوى الإنسانية بأسرها.

توالى بعد ساحة جامع الفنا المراكشية، الاحتفاء برموز كثيرة من هذا الإرث اللامادي للإنسانية. ولكن وإن كان الرمز الأول على القائمة كان عربياً بامتياز، إلا أن حظ الموروث العربي ظل شحيحا على قوائم هذا الإرث، وحتى أخذ طبق الكسكسي يأخذ طريقه لهذه التسمية، كإرث ثقافي مغاربي (عندما سألوا الزعيم التونسي الراحل بورقيبة عن تعريف المغرب العربي، أجاب "حيث يوجد طبق الكسكسي"). حيث تقدمت أربع بلدان مغاربية (المغرب وتونس والجزائر وموريتانيا) بمقترح إدراج الكسكسي، على قائمة الإرث اللامادي للإنسانية.

ولكن، وهذا بيت القصيد هنا، غابت ليبيا، الطرف الأهم في مبادرة الكسكسي، وحارس حدود المغرب العربي عن هذا الملف. وذلك رغم الدور الاستثنائي الذي لعبه بالخصوص، مندوبنا السابق لدى اليونيسكو المرحوم الدكتور عبد القادرالمالح، الذي ترأس حينها المجموعة العربية لدى اليونيسكو. هذا الغياب الليبي عن مبادرة تسجيل هذا الطبق الليبي بامتياز، (وكذلك تأخرإمكانية تسجيل رقصة الكسكا، أو وثائق مركز الجهاد الليبي الشفوية... وغير ذلك)، يعود في الواقع إلى تأخر ليبيا عن توقيع الاتفاقية الخاصة بهذا الإرث اللامادي. وذلك دون أن يكون لدى الطرف الليبي، أو طرف المنظمة، أية إجابة عن سبب هذا التأخر/أو التردد.