Atwasat

باب القمر

جمعة بوكليب الخميس 17 ديسمبر 2020, 12:30 صباحا
جمعة بوكليب

حين تأسست المدن قديماً، أحيطت بأسوار ذات أبراج عالية، وبأبواب محروسة، تفتح صباحاً وتغلق ليلاً، ردعاً للغزاة، وحماية للسكان. وجرت العادة أن يطلق الناس أسماء على أجزاء من الأسوار، وعلى الأبراج، والأبواب، بغرض تمييزها. وبمرور الزمن، والتطور الحضاري، خرجت المدن عن أطواق أسوارها، وتمددت، أفقياً وعمودياً، في اتجاهات عديدة، وصارت الأسوار والأبراج والأبواب أجزاءً من ذاكرات وتواريخ معظم المدن في العالم، وخاصة في البلاد العربية. كان لطرابلس القديمة سور يحيط بها من جميع الجهات، ومازالت بعض أجزائه قائمة. وكان لذلك السور ثمانية أبواب. حمل كل باب منها اسماً، يدل على الجهة التي يفضي إليها. باب هوارة، باب الخندق، باب البحر وهكذا. باب الجديد أحد تلك الأبواب في السور القديم، من دون دلالة على جهة. وسمي بالجديد، نسبة إلى جدته، لأنه كان آخر باب فتح في الجهة الجنوبية الغربية من السور، قبالة مصنع التبغ، عام 1865.

باب البحر، مثلاً، كما يدل على ذلك اسمه، حين عرفته صغيراً، كان -وظل إلى يوم الناس هذا- بلا باب. شبه قوس مفتوح في جهة من السور، بدرجات حجرية مسودة، يفضي هبوطاً إلى البحر. رائحته عجيبة، تستشعرها بمجرد اقترابك منه. رائحة مميزة، مثقلة بمزيج من ملوحة ورطوبة وقدم. باب الحرية، كان، بالنسبة لي، في صباي، مختلفاً ومربكاً، لأنه لم يكن من الممكن لي التعرف على مكانه، كغيره من الأبواب، نظرا للتغيرات التي استحدثت في العهد الإيطالي. لكن الباب الجديد، كان الباب الوحيد، من دونها جميعاً، واضح الملامح، ومحتفظاً ببابه الخشبي، وإن تقادم خشبه من الإهمال وعوارض الوقت والطقس. كان باباً ضخماً، يمر به الناس يومياً، من دون أن يولوه اهتماماً، وكأنهم لا يرونه، أو كأنه لا وجود له، أو كأنهم ألفوه حتى صار كواحد من مئات بشر آخرين، ولم يعد يهمهم. لكني لم أكن أعرف ما الذي كان يشدني إلي ضلفتيه الخشبيتين الهائلتين المتآكلتين، بلا لون. كلما مررت به، توقفت عنده لوقت متفحصاً، ومدققاً، ومتعجباً، وكأني أتعرف فيه على ملامح وجه صديق، أو قريب افتقدته لسنوات طويلة.

العديد من المدن العربية القديمة لا تختلف عن طرابلس. فالمرء منا حين يزور مدينة تونس، على سبيل المثال لا الحصر، يجد نفسه يخوض مع أهلها الخائضين في باب سويقه، أو غيره من المناطق التي تحمل أسماء أبواب. الغريب، أنني ذلك المساء، كنت أتابع مسلسلا تلفزياً أسبانياً، يتناول أحداثاً وقعت في فترة ما بين بداية الحرب الأسبانية ونهايتها. وجرت بعض تلك الأحداث في مدينتين مغربيتين هما طنجه وتطوان. وفي إحدى اللقطات، سلطت العدسة على لوحة تحمل اسم زقاق صغير، من أزقة مدينة تطوان القديمة، اسمه باب القمر، وكتب الاسم بخط عربي مغربي، وبالأسبانية.

أثار الاسم فضولي، وتفكيري، لأني لم أكن أتوقع، فعلياً، وجود اسم لباب يفضي إلى القمر، كذاك الذي يفضي إلى البحر، أو حتى إلى الحرية! و«بكل يد مضرجة يدق». القمر شيء آخر. كوكب آخر. عالم مختلف بعيد ومطلسم: فكيف لباب في مدينة صغيرة اسمها تطوان أن يفضي إليه؟ حين هرعت إلى الإنترنت بحثاً عن أبواب تطوان القديمة، وجدت سبعة منها، ولم يكن من ضمنها باب القمر! فلماذا سمي ذلك الشارع، أو الزقاق بباب القمر، إذا لم يكن هناك باب؟

لذلك، يظل سؤالا قائما، في حاجة إلى إجابة، عمن تجرأ وأطلق الاسم، وخلفياته. هل السكان هم من اختاروه أم أن مسؤولاً في المدينة فرضه؟ ربما أطلق التطوانيون الاسم على الزقاق قديماً لأن القمر يطل من جهته بشكل مميز جداً، فبدا لهم وكأنه باب يفضي إليه، أو، وهو احتمال ضعيف، أن عاشقاً مغرماً بامرأة في جمال القمر، كانت تقيم به، أو يفضي إليها، فأطلق عليه الاسم. وهناك احتمال أكثر ضعفاً، وهو أن يكون من أطلق الاسم واقعاً تحت تأثير سكر، أو مخدر. وربما يكون شاعراً في لحظة تجل، أو مجدداً أحب أن يخالف الناس، وإثارة فضولهم أو استفزازهم، أو الاثنين معاً.

لو أطال الله في عمري، وزرت تطوان، يوماً ما، آمل أن يكون قريباً، سأكون حريصاً على أن أطوف مدينتها القديمة، زنقة زنقة، وشارعاً شارعاً، بحثاً عنه. ليس إرضاءً لفضول كهل، في الربع الأخير من عمره، بل لنفض رماد عن جمر حلم في قلبي، ولخوض تجربة الوصول إلى زقاق، أو شارع، كباب يفضي، مباشرة، إلى القمر، كما يفضي باب البحر، في المحروسة طرابلس، إلى غواية زرقة لا تقاوم ولا تكتهل ولا تنسى، ورفيف نوارس مازالت، رغم تصاريف الأيام، طليقة تطير بحرية في فضاءات قلوبنا، وانفساح بلا حدود، كان مرعى خصباً لأحلامنا، ومرتعاً وملهداً لطموحاتنا، قبل أن تخطفها، على حين غفلة منا، حدأة الوقت ليلاً، وتترك لنا حسرات كحسك مغروز في الحلوق.