Atwasat

هل تموت الفلسفة؟

رافد علي الأربعاء 16 ديسمبر 2020, 07:08 مساء
رافد علي

جورج طرابيشي في كتابه «مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام»، يعترف بأن القصد من تأليف كتابه المذكور كان لإعداده كفصل في مشروع رده على أطروحة محمد عابد الجابري نقد العقل العربي، الذي أقام فيه الأخير «مقارنة ضدية بين العقل الأوربي المسيحي والعقل العربي الإسلامي في تعاملهما مع الفلسفة»، إذ طرح الجابري أن العقلية الإسلامية لم تعترف بالمنظومة الفلسفية الأرسطية بسبب أن مرجعيتنا الدينية أعلنت استغناءها عنها، بعكس المرجعية المسيحية في أوربا.

طرابيشي في مصائر الفلسفة أكد على أن الفلسفة العربية قبل القرن السادس الميلادي كانت موجودة، وتنهل من فلسفة اليونان، ودشنت جراء تعاطيها مع فلسفة الإغريق قاموساً فلسفياً عربياً زاخراً، بما يخالف وجهة النظر السائدة، والمبنية على أطروحة أسسها المستشرق غولدزيهر عام 1915 في كتابه «موقف أهل السنة القدماء إزاء علوم الأوائل»، والتي لازالت صاحبة الأثر الأعظم في رسم صورة حاسمة في تشكيل رأي أجيال متلاحقة حول موقف الإسلام من الفلسفة سلباً. فالمرحوم طرابيشي يفند الاعتقاد السائد بأن الشيخ الغزالي هو من قضى على الفلسفة في الحضارة الإسلامية، مستخدماً تعبير «الضربة القاضية»، بشكل لا يخلو من التهكمية على طرح الجابري باعتباره صاحب الفكرة المنتقدة بشكل مباشر.

بغض النظر عن سجال الرجلين الفكري حول مصير الفلسفة في الديانتين باعتباره يصب فيما أُطلق عليه، أثناء حياتهما، بأنه «حوار مؤجل»، كون أن طرابيشي والجابري لم يخوضا حوارية مباشرة ومفتوحة أمام الجميع، رغم أهمية ما يتناولانه علي مستوى أزمة العقل العربي. القضايا المتعارضة بين الرجلين هامة ومثيرة، وأمام حالة تضادهما حول نقطة الموقف من الفلسفة ومصيرها في ثقافتنا التي تبدو أزمتها جلية، يبرز سؤال جانبي متجدد دائماً في أوساط الفكر والتفلسف، وهو هل حقاً تموت الفلسفة؟!

السؤال في بعده الفكري لابد وأنه قد طرح سابقاً، ولايزال يطرح في عصرنا اليوم، ومؤلفات الفلسفة العصرية لا تخلو من التعاطي مع ذات السؤال أكاديمياً، بل وتناظراً بين أهل الفكر في الغرب، باعتبار أن الفلسفة لازالت تشكل حيزاً متواضعاً في جامعات عالمنا العربي، للأسف. ففي ثقافة الإسلام، كان كتاب تهافت الفلاسفة - للشيخ الغزالي- هو الحلقة الأخيرة في فصول إسدال الستارة على الفلسفة في المشرق المسلم، في حين أن التعاطي مع صاحبة الحكمة، الفلسفة، في المغرب الإسلامي ظل مستمراً وصولاً لمحنة ابن رشد، صاحب تهافت التهافت؛ مع الكلاسيكية المحافظة والمتشددة في عالم الإسلام التي تأثرت بجهود «تسنين العقيدة القويمة» على يد العقلية المحافظة في إسلاميات أمتنا، تماماً كم حصل مع الكنيسة في الغرب المسيحي حسب تعبيرات طرابيشي.

السؤال هل ماتت الفلسفة؟! لا زال يبرز من فترة لأخرى بالعالم المتقدم كلما وصل الإنسان مرحلة من الازدهار الفكري مدشناً فتوحات جديدة تعبر بالإنسان نحو نضوج إنساني أعمق، وتعزز مكانتنا ككائن مميز، وصاحب حضارة فريدة في هذا الكون الغامض والمدهش. ففي العالم الحر اليوم، الفلسفة أضحت تزاوج كل حقول المعرفة، وكلما تطور العلم أضحى سؤال موت الفلسفة عنواناً بارزاً عما إذا ما استنفدت الفلسفة كل طاقاتها وقواها، بحيث يتمحور ذات الاستفهام، أو ذات السؤال، عن إمكانية الاستمرار في التفلسف، عقلاً ومنطقاً في الموجود، أي أن يخوض العقل عناء الرحلة في البحث عن الحقيقة بالتفكير، عوضاً عن الاكتفاء بالجاهز من الأحكام وضمن سياق يحتكر الحقيقة ويسطو على اليقين بجاهزية شديدة، إما عبر الجواب الملقن، أو عبر الطوباوية، أو من خلال ممارسة اجترار الأحكام والتفاسير والتعليلات.

التوجه الهيجلي، ذاك التيار الفلسفي الذي انكب على تحليل وشرح فلسفة هيجل، ربط فكرة موت الفلسفة بتحقيق المطلق تاريخياً، خصوصاً بعد أن خاض نابليون حروبه في القارة الأوربية «مبشراً بقيم الثورة الفرنسية». فتلك القيم من حرية وعدالة وإخاء كان الفكر الأوربي يكافح فكراً وتفلسفاً لأجل ترسيخها في أرض «الدولة» الحديثة بالقارة، وطي صفحة الظلم والاستعباد والاستبداد واللاهوتيات. ومع ذلك استمرت الفلسفة في مناكفتها من خلال «الهدم للأنطولوجيا»، عبر الانصهار في دراسة العلوم، كون العلم قد قطع الطريق على الفلسفة، فالعلم يضع يده على مواضع الخلل، فيهدمه ليطلق العنان للفكر بأن يحتل ساحة للتفكيك وللتعليل والاستنتاج. ومن هنا شاعت المقولة الشهيرة حينها للمفكر الفرنسي جاك دريدا «فلتمت الفلسفة، وليعش الفكر».

في عقد الستينيات من القرن الماضي اقترح هنري لوفيفر مرحلة ما بعد الفلسفة، بحيث تترجم الفلسفة إلى أفعال بدلاً من الجدل، وبدلاً عن التقليد تصبح الفلسفة شعراً. قد تبدو الحالة عند لوفيفر مشبعة بالفنتازيا، إلا أن واقع الحال يشير إلى أن الفلسفة عبر تاريخها قد احتكت بالشعر، فهي لم تكن منعزلة عنه عبر تاريخنا الإنساني. ففي اليونان حيث تعتبر الملاحم الشعرية ديوان الإغريق، فيها التأريخ والتخليد، حاول فلاسفة الإغريق كفيثاغورس وبارمنيدس وأمبادوقليس نظم قصائد فلسفية ضمن ثقافة الإغريق الشفوية المعتمدة علي الذاكرة والحفظ، بقصد الترويج للفلسفة ومذاهبها ضمن المتاح والمتوفر. لقد حاول الفيلسوف الإغريقي حينها طرح أفكاره من خلال منبر الشعر، لكن مهمته لم تكن بالسهلة، فقد كان عليه الموازنة بين الانحياز إما للصورة الشعرية التي تحكم الشعر، أو الانحياز للمفهوم المجرد، المرتكز الأساس في علم الفلسفة، وقد جعلت هذه الموازنات أو المقاربات جهد المحاولة عملا استثنائياً. لكن من فشل في خلق حساسية شعرية بصورها المطلوبة في النظم الشعري كان يغضب النقاد الإغريق منه، بل كانوا يسخرون من فكرة خلط الفلسفة بالشعر لدقة المباشرة فيها. إن الفلسفة لا تموت طالما أن القدرة على التفلسف تظل قرينة الحياة. فالبدايات في التفلسف تتعدد من الأصالة في التأمل في الحياة بعقلانية الاستنتاج منذ التجربة الإغريقية، وصولاً إلى لحظة الفلسفة الراهنة أمام دهشتها من عصرنا وثقافتنا المبنية على التقنية والسرعة واللامحدودية، بل حتى انعدام الثقة بالنفس، حسب ما يرى الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير.