Atwasat

فقر الفلسفة

عبد الكافي المغربي الثلاثاء 15 ديسمبر 2020, 12:15 مساء
عبد الكافي المغربي

في عصر الإيمان، وبرغم بلوغ البؤس والافتقار حدا يستشنعه الضمير الحديث، فإن ما انبث في الأنفس من يقين، وما اشتملت عليه الحياة من قناعة تكسبها طمأنينة الوعد الحق، كانت تنعم على الإنسان إذ تمنحه تفسيرا لوجوده، فإذ هو يحتل موقعا مركزيا إزاء الطبيعة، وإذ هو قائم على التاريخ يصنعه ويفسر تقلباته إذا أعجزته بفلسفة الجبر. ثم تعاقبت فروع من الفلسفة الغربية والاكتشافات العلمية الحديثة، وحربان مدمرتان، لتتخطف الإنسان من فردوس أوهامه، ولتضع الفرد في مقابل العدم، تموضع من مفارقات الخبرة الإنسانية أنه سيفهم كونه موقفا وجوديا.

وأمام موقف استنتاجي كشف لنا أن «عقلانيتنا» كانت أكبر خصومنا، أخذت تتبين لنا مغارم الوجود، وتجلت الصفة الإشكالية للعلاقة بين الإنسان وعالمه، في تمنع هذا العالم عن التجلي بصورة «عقلانية».
ولم تفلح المثالية في إعادة الإنسان إلى مركز الوجود على اجتهادها، وميتافيزيقا هوسرل، بإخفاقها المشين في استبعادها للغة من إضفاء المعنى واستنادها إلى المعنى الجوهري، تقابل ميتافيزيقا هايدغر التي فككت صلة الإنسان بالواقع المعاش بقدر ما قدمته في حدوث الإحاطة وتوليف الوجود على إمعان الفلسفة في التجريد، وتشييدها لأعظم المباني طولا على أشد القواعد هشاشة.

واجتهاد الفلسفة في النأي بنفسها عن الزمان بمفهومه التقليدي، وندرة أن تبرأ من أيديولوجيا تعكس علياء المفكر واشتغاله بموضوع علاقته مع الكتلة من العامة الجاهزة أبدا لفرض عقائد اعتباطا، يتمخض هذا كله عن فلسفة تعسفية وضعها فرد واحد، ويقاتل عنها فرد واحد وحشد من التلاميذ، وإن كان ذلك الإيمان وذاك القتال مجردا، ميدانه البحوث المضادة. لقد غرست الفلسفة بذور بوارها عندما أصبحت تشكك في موثوقية المعنى.

وإذاً، ولما أن لم تُبقِ الفلسفة للمشتغلين بالوجود إلا الانتحار بابا جديرا بالطَرْق. بحسب ألبير كامو يبدو الأدب لنا بديلا للقبض على المعنى المراوغ. على أن الأدب لم يسلم من لفحات العبثية، ولا يزال المخلدون من الأدباء منذ دوستويفسكي يذكرون القارئ بوجوده في عالم غير صديق، وأنه لا يملك فيه أمره.

وتأثير الفلسفة بعيد عميق. فإذا نظرنا إلى تحايلها على العلم لتنسب إليها فلسفة العلوم، فقد اقتحمت على الأدب خلوته في علوه نموذجا إبداعيا للحياة الإنسانية، وأورثت النقد الأدبي تجريدا ومثالية لم يبرأ منهما إلى هذا اليوم.

وبينما يعيش العامة في غير كثير من عناء، ضاربين في الأرض منكبين على رزقهم أو رِبحهِم، يبقى البحث عن المعنى وتقدير الأدب والإفادة من الجمال موضوع بحث وهّم للمفكر. ولكن المفكر لا يملك أن يقترب من الواقع المعاش قيد أنملة حتى يبتعد عنه، وذاك لعله داء الفكر أو مرض العقل، فهو خارج العالم كما نريد أن نفهمه.

العودة إلى الإيمان القديم، كمسكن لآلام الوجود على طريقة أبطال نجيب محفوظ، الاتجاه إلى الإلحاد كما ينصح Richard Dawkins المحظي من الإعلام في حملاته لجعل الإلحاد دينا جديدا، أو ربما التصالح مع المادية الاقتصادية التي تحكم العالم، والتي ستدفع Samuel Becket رمز العبثية الأدبية إلى إقامة الدعوى على ناشر أخل بشرط واحد من شروط أحد كتبه العبثية، وقد أحسن نجيب محفوظ في وصف تناقضات الوجود وتهافت أسباب مسبغ المعاني.