Atwasat

تدمير الماضي يفضي إلى الصمت

سالم العوكلي الثلاثاء 15 ديسمبر 2020, 11:11 صباحا
سالم العوكلي

في مقالة سابقة تحت عنوان "داعش بنت الحداثة أيضا" تطرقت بشكل وصفي للظروف التي تكمن وراء ظهور مثل هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر اليمينية واليسارية المتطرفة التي تتخذ العنف وسيلة لإدراج فكرتها في التاريخ. فداعش "صنيعة شيوخ خارجين من كهوف التاريخ وموظفين أنيقين وراء مكاتب فارهة في ناطحات السحاب".

غير أنه من أجل تحري بعض التفاصيل الأخرى الكامنة وراء مثل هذه الظواهر يمكننا تعقب أثرها في أطروحة أو بالأحرى ظاهرة ما بعد الحداثة خصوصا، باعتبارها ليست مرحلة أعقبت الحداثة لكنها انبثقت في داخلها وتحديدا من خلال نقدها الحاد لها، ووصفها من قبل بعض فاحصيها بحلقة وصل بين الحضارة ورأس المال، واتخذت منطلقاتها من روح التهكم على السرديات الكبرى والتاريخ الرسمي. الانعطاف إلى الهامش والهزء والعبث وإحلال خطاب الصورة والشفاهية محل الكلمة المكتوبة، والسرديات الصغيرة محل السرديات الشمولية، سمات مقترحة لأطروحة ما بعد الحداثة التي ارتبطت إلى حد كبير بالمزاج الأمريكي حيث يصف ستيوارت هال ما بعد الحداثة بأنها الطريقة التي يحلم العالم فيها بأن يكون أمريكيا.

في مقدمته لكتاب (الحداثة وما بعد الحداثة) الذي جمع فيه حزمة مهمة من مقالات مختارة راودت هذا المصطلح من مداخل مختلفة، يقول بيتر بروكر: "الحقيقة أن هذه التسمية (يقصد ما بعد الحداثة) تصف ثقافة تتسم بالضحالة والرتابة وفي الوقت نفسه بتعددية الأنماط؛ فهي ثقافة فرعية وجديدة في آن. وهي بإيجاز تمثل مجتمعا بكل ما تعنيه الكلمة من تنوع وضحالة وما إلى ذلك من سمات تميز معبودته الأثيرة شاشة التلفزيون". وهي الفكرة نفسها التي تنزاح بالخطاب المكتوب إلى خطاب الصورة. غير أن بروكر يطرح أسئلته المهمة التي منها انطلق منهج إعداده لهذا الكتاب: "هل ما بعد الحداثة صورة جديدة من الحداثة ولِدتْ على هيئة مسلسل تلفزيوني؟ هل هي مجرد صرعة فقدت جدتها بالفعل؟ وهل تعبر عن نمطية ثابتة حاليا أم عن تنوع جديد ونهج مستقبلي؟".

تصعب الإجابة عن هذه الأسئلة التي تُطرح من قلب الظاهرة نفسها، والمرجح حين نتحدث عن اليمين المتعصب أو الجماعات المتطرفة لا ندعي أنها معنية أو منطلقة من هذه الأسئلة أو من وعي بها، غير أنه يمكن ان نعتبرها نتاجات عرضية لتفاعلات كيميائية أساسية تحدث في أتونات المعرفة والسياسة والثقافة والاقتصاد، دون أن نستهين بهذه النتاجات الثانوية التي تشبه الانبعاثات االسامة الناتجة عن مؤسسات التصنيع، المهددة لحياة الكوكب برمته.

حين شاهدتُ في أحد الميادين، بداية انتفاضة فبراير، شابا يرتدي قبعة أفغانية يسير بجانب شاب يرتدي قبعة شي غيفارا، قلت لرفيقي: هذا مشهد ما بعد حداثي بامتياز. جمالية التجاور، الفكاهة بدل المقدس، العبث بدل الهدف، الدالة بدل المدلول، الغياب بدل الحضور، وكلاهما منطلق من صورة وكلاهما يعتبر هذه الهيئة فكرة ما، ويتناص سيميوطيقيا مع نص في الذاكرة، لكن الخيار "الذي ينتمي إلى نظرية التفكيك والحداثة المتأخرة قد يستكشف تواترات النص والعالم الذي يدور فيه، فيفتح بوابات الماضي ويفكك ثوابته" كما يجادل بروكر. وتواترات النص تفعل فعلها في إنتاج هذه الحركات التي تتناص معه عبر سلوكها في الحياة اليومية، فالأمر لم يتوقف عند النصوص وتأويل الأفكار وفق هذه الرؤية فقط، لكنه انتقل من حيز الخطير إلى الإجرامي ، حيث أصبح لكل فكرة جيش مسلح يدافع عنها أو يدعو لها، ولم تعد الجيوش فقط مرتبطة بجغرافية الدول أو حماية أمنها القومي ــ من الجيش الأحمر وصولا إلى حزب الله ــ لكن التفكيك طال هذا المفهوم وأصبحت الجيوش المصغرة مرتبطة بالأفكار السابحة ما جعلها جيوشا مخترقة للحدود تلاحق فكرتها خارج الجغرافيا وأحيانا خارج حتى التاريخ. أيضا، كان مشهد انهيار برجي التجارة في منهاتن مشهدا ما بعد حداثي نموذجيا حين تصادم مباشرة الهامشيون الخارجون من كهوف أفغانستان مع نخبة العالم في ناطحات السحاب، وحيث كانت أطروحات الحداثة التقليدية تتوقع صدام الأيديولوجيات الكبرى أثناء الحرب الباردة، أو تتنبأ بانتصار إحداهما ما يشي بنهاية التاريخ، لم يتوقع أحد أن يحدث هذا التصادم السريالي إلا في ذهن من يدركون التغيرات الكبيرة في بنية الخطاب، ومن بإمكانهم القبض على روح الفكاهة في قدرة سكاكين قص الزبدة على اختراق أقوى ترسانة دفاعية فوق الأرض. واقتلاع برجي التجارة أو تدمير المدن الأثرية برمتها وجه آخر لتقويض السرديات الكبرى والسخرية من التاريخ. تحطيم الماضي يفضي إلى الصمت وفق تعبير إمبرتو إيكو. وما يجعل الولايات المتحدة طرفا ثابتا في هذا الصراع كونها حلما كونيا كما قال هال، أو جنة أرضية كما يدلي بورديار بأن ما بعد الحداثة وجدت ضالتها المنشودة في الجنة التي تحققت في أمريكيا الشمالية، في الأرض التي لا حضارة لها، حيث تتاح الفرصة لكل ما راود أحلام أوروبا لكي يتحقق على أرض الواقع.

"إن انتخاب ممثل سينمائي سابق كرونالد ريجان ليحتل واحدا من أكبر المناصب في العالم أضفى بريقا جديدا على إمكانات سياسة تلفزيونية تصنعها الصورة وحدها". وكانت الميديا المروجة تقدم النموذج الجديد للرجل "القوي والحنون" في الوقت نفسه الذي من المفترض أن يعكس الجوهر الأمريكي كما تخيلته أحداس ما بعد الحداثة، وفي السياق نفسه كانت أمريكيا تسمي ردات فعلها على هذا الاحترار السياسي الذي تمثله أحزمة الأفكار الناسفة، المتعددة الجنسيات والعابرة للحدود "الضربات الجراحية" وهي تقتل كل مرة قائداً من قيادات هذه الجيوش المارقة عبر مشهد تلفزي يدغدغ استجابات "مجتمع الفُرجة" أكثر من كونه استراتيجية فاعلة لوقف هذه الانبعاثات السامة من عصر غليان الأفكار وتواترات النصوص المقدسة وغير المقدسة. ولا تقتصر هذه العمليات على الجماعات الإرهابية بل تتعداها إلى رؤوس النظم السياسية المدرجة في الخانة نفسها.

مُعلِّقةً على إحدى تقنيات المشهد الريجاني في مقالها (الضمير السياسي لما بعد الحداثة) تقول لورا كيبينيز: "كتبتُ المقال في الأسبوع الذي قامت به المقاتلات الأمريكية بقصف ليبيا بالقنابل، وهو ما قدمته لنا السلطات الحاكمة على أنها "ضربة جراحية"، وهي عبارة تذكرنا بضربة جراحية أخرى، وهي الجراحة التي كانت تُجرى على مخ المرأة على أثر تشخيص حالتها بفقدان القوى العقلية. والقذافي هنا يقوم بدور فرانسيز فارمر، وتؤدي أمريكيا دور الجراح. وتزدحم أخبار شبكاتنا الإخبارية هذه الأيام بالليبيين "المجانين" والفلسطينيين "المخبولين" الذين يحتاجون إلى عمليات صغيرة في أمخاخهم. وتعترف هذه الشبكات بمهمتها الأيديولوجية صراحة لدرجة أن أصبح شعار شبكة سي بي إس هو: نحن نبقي أمريكا على قمة العالم".

لورا كيبينيز، المنافحة النسوية الشهيرة، التي تعتبر الثأر للغطرسة البطركية الأمريكية نقدا ما بعد حداثي للتنوير (كما سيكون انتخاب ترامب بعد 20 سنة تقويضا لقيم التنوير) تُسمي هذا الهوس بـ "العمى العرضي" الذي يجعل الحكومة الأمريكية تدرج في خانة "الإرهاب الدولي" الراهنة آنذاك ، الاتحاد السوفياتي والأصولية الإسلامية وجماعة الساندينستا. "إنه الهامش والغياب والسطح الخارجي وإعادة وضع القواعد من منطلق خاص" كما تصف لورا هذه الغطرسة بقاموس ما بعد الحداثة نفسه.

والأمر ينطبق في هذه الفترة على ارتباك تصريحات الساسة الفرنسيين الراهن تجاه هذه الظواهر المتطرفة؛ التي مثلما يمكن العثور عليها في الكتب المزخرفة في المعابد، من الممكن أيضا ان نعثر عليها في تواترات نصوص ليوتارد، فوكو، وديليوز، ودريدا، وغيرهم ممن مثل تحديا سياسيا لدعاوى العقل والتقدم المستنير، وتحديا نقديا للكلام المكتوب، ولسلطة الكاتب على نصه، وللطبيعة على الثقافة، وللغة على الكائن، ولله على الجميع في أطروحات ما بعد البنيوية (التسمية الأوربية القارية لما بعد الحداثة) التي استُلهِمت من تأملات نيتشه الذي اختزل البعد الأخلاقي في إرادة القوة، وبدوره اختزل هتلر هذه الرؤية لإطلاق الفكرة النازية، ومن تأملات هيدجر الذي انحاز فكريا وعضويا للنازية ومشروعها.

والأمر أكثر تعقيدا من ذلك لأن أسهاماتهم جميعا فتحت آفاقا ثرية في فضاء المعرفة والنقد وفلسفة اللغة، لكن أعود لأقول أن لكل نظرية مسبوكة طفحا جلديا يظهر عليها عادة ما يمثل إغراءً للطغاة وفق تأويلهم المختزل لتأملات نساء ورجال يشطحون في معتكفاتهم التي يغمرها دخان التبغ ورائحة الورق.