Atwasat

النص على العلمانية أو الدين في الدستور

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 13 ديسمبر 2020, 05:01 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

تتسم مقالات الهادي بوحمرة، في حدود اطلاعي، بروح الجدية والمسؤولية، أي بالموضوعية. إلى جانب دقة الصياغة وتماسكها. وهي تنتمي إلى التفكير المنهجي النقدي الذي لا يأنس للسائد المسلم به. ومن هنا تكتسب عمقها وأهميتها، ومن هنا، أيضا، يمكن للمرء التفاعل معها اتفاقا واختلافا. والاختلاف مع بعض تفاصيلها وأوجهها، ومعارضتها لا يعد نقضا لها، وإنما يدل على أنها حققت هدفها من خلال تحفيزها على التفكير النقدي الذي تستهدف تعميق مجراه.

بهذه الرؤية أتجادل مع مقالته الأخيرة "قول في الفصل بين الدين والدولة" الوسط 10. 12. 2020. يفتتح بوحمرة مقالته بالتأكيد على أن للفصل بين الدين والدولة وجوه وأبعاد ودرجات وتجارب، متعددة ومتنوعة، تتوزع وتنتشر بين الوضوح والغموض، والتصريح والإضمار، والتقييد والإطلاق. "فلكل تجربة من تجارب الفصل أو التداخل معطياتها، ونجاحاتها، وإخفاقاتها، وتظل مجرد خيارٍ من خيارات متنوعة، تتقاطع مع غيرها أحيانا، وتتباعد عن بعضها في أحيان أخرى، ويرتبط كلٌ منها بتاريخٍ ومنهجٍ وسياقٍ قد لا يتكرر في مجتمع غير المجتمع الذي وضعت له".

هذا الطرح منطقي وسديد. ولتعزيز طرحه هذا يورد معطيات واقعية مؤداها أن "الدول التي تنص صراحة في دساتيرها على مصطلح العلمانية" مثل فرنسا "التي ينص دستورها على أنها علمانية، قبل أن تكون جمهورية، لكونها علمانية جمهورية، وليست جمهورية علمانية" وتنزل (الدول) العلمانية "منزلة تتقدم وتعلو نظام الحكم فيها هي دول محدودة، ولا يمكن أن يكون الاستثناءُ معيارا للحكم على تجارب الآخرين".

وهنا يعن لنا سؤال: ما هو نصاب هذا الاستثناء؟. ما هي، في هذا السياق، النسبة المئوية التي يعتبر عندها الوضع استثنائيا، وإذا تم تجاوزها يكون قد خرج من حالة الاستثناء؟.

ويورد أمثلة على دول، ليست استثناء، تنص على الدين في دساتيرها أو تضعه موضع الصدارة، مثل:
"المملكة المتحدة، التي فيها الملكة الحاكم الأعلى للكنيسة وحامي الإيمان والعقيدة، ولرئيس وزرائها دورٌ في التعينات الكنسية، و [...] الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تعير أنظمتها اهتماما لارتداء الرموز الدينية، و [...] سويسرا التي يبدأ دستورها باسم الله القدير. [... و] مملكة النرويج التي ينص دستورها على أن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي كنسية الدولة، وأنها تحظى بدعمها، وأن ملكها يجب أن يكون معتنقا للمذهب الإنجيلي اللوثري، وأن القيم تُسّتقى من التراث المسيحي، و [...] آيرلندا التي يبجل دستورها يسوع المسيح، ويعتبر الثالوث المقدس مصدر السلطات، وينص على احترام الدين، واعتباره جزءا من الهوية الوطنية".
الحقيقة أن هذا النص، الذي أوردناه مختصرا، بشكل نأمل ألا يكون مخلا، يثير أكثر من إشكال. ذلك أنه يستهدف التدليل على أن الدول التي تنص في دساتيرها على كونها علمانية، ومثاله هنا فرنسا، ليست أكثر رعاية للحقوق والحريات العامة والفردية من الدول التي تمثل بها والتي تنص على الدين في دساتيرها، أو ترعاه. وحجته، الوحيدة، في ذلك أن فرنسا "تذهب في اتجاه حظر المظاهر العلنية للانتماء الديني، ومنع ارتداء الشارات الدينية في المدارس العامة".

لقد دار جدال كثير حول هذه المسألة. لكن ينبغي الانتباه إلى أن هذا الإجراء حدث في فترة قريبة جدا تنامى فيها التشدد الديني الإسلامي والمسيحي، وبلغ مبلغ الإرهاب. وبذلك لم تعد الرموز الدينية الظاهرة مجرد رموز تدل على الهوية الدينية والثقافية، وإنما أصبحت مناشير سياسية دعوية متجولة. ومع ذلك فهي لم تمنع بإطلاق، وإنما اقتصر منعها على مؤسسات الدولة العلمانية. فلا يمكن لطبيبة أو ممرضة مسلمة مثلا أن تمارس عملها مرتدية النقاب، لأن ممارسة هذه المهنة في المستشفيات يستوجب ارتداء زي معين. كما لا يمكن لطبيب سيخي أن يمارس عمله في مستشفى فرنسي معتمرا العمامة السيخية. هذا يشبه ضرورة حلاقة الوجه يوميا وتحديد مستوى طول شعر الرأس بالنسبة إلى أفراد الشرطة والجيش، أو فرض بعض المقاهي والمطاعم ودور السينما على مرتاديها ارتداء بدل رسمية. فليس في هذا تعديا على الحريات أو تخليا عن حمايتها.

كما أن اعتبار ملكة بريطانيا "الحاكم الأعلى للكنيسة وحامي الإيمان والعقيدة"، وليس العكس (أي أن تكون الكنيسة الحاكم الأعلى للدولة) يختلف عن النص على الدين في الدستور، وهو لم يعد سوى مظهر فلكلوري تراثي لا يؤثر في الشأن العام، مثله في ذلك مثل أي تقليد آخر من تقاليد البلاط البريطاني. ودور رئيس الوزراء البريطاني في التدخل في التعيينات الكنسية يختلف أيضا عن تدخل الكنيسة في التعيينات الوزارية. فالكنيسة هنا أصبحت مؤسسة عادية منصاعة للدولة، وليست حاكما عليها. وهذا يعد شكلا من أشكال فصل الدين عن الدولة. إذا العبرة في الأمر، كما يؤكد بو حمرة نفسه، هي عدم تدخل الدين في السياسة.. في شؤون الدولة والمجتمع. وكذلك هو الشأن بخصوص وضع الملك في النرويج، والنص في دستور النرويج على أن القيم "تستقى من التراث المسيحي" يختلف تماما عن النص على أن "القوانين تستقى من الترتث المسيحي".

ولا أعتقد أن ثمة تأثيرا فعليا على شؤون الدولة والمجتمع في سويسرا التي "يبدأ دستورها باسم الله القدير"، أو على الفرد وشؤون الدولة والمجتمع في آيرلندا "التي يبجل دستورها يسوع المسيح، ويعتبر الثالوث المقدس مصدر السلطات". كما أن النص "على احترام الدين واعتباره جزءا من الهوية الوطنية" هو مبدأ علماني أكثر منه مبدأ دينيا. فلا أحد يدعو إلى عدم احترام الدين وعدم اعتباره جزءا من الهوية الوطنية. لكن هذا يختلف عن اعتباره حاكما شاملا، ولا يمنع من دراسته دراسة فكرية من منظورات لا دينية.

تدور بقية مقال بوحمرة حول وجوب النظر إلى النص على الدين في أي دستور، من زاوية "تقييم أثره على الحقوق والحريات، وفحص ما يتوافر بشأنه من خيارات مسائل تتوقف على سلسة من الاعتبارات، وتعتمد على ما يُعطى من نتائج لعدة مقارنات". وهل الدين في هذا الدستور يوضع فوق سلطة القانون أم تحتها.

وأنا أتفق في هذا مع الهادي بوحمرة، ذلك أن خلاصة محاججتي هنا، هي القول بأن عدم النص في دستور دولة ما على أن الدين مصدر التشريع، يجعل من هذا الدستور دستورا علمانيا والدولة دولة علمانية.