Atwasat

الوافي.. التاريخ بدم القلب

سالم الكبتي الأربعاء 09 ديسمبر 2020, 06:07 صباحا
سالم الكبتي

"ومن حاجة محزون الفؤاد أن يتذكرَ"

النابغة الجعدي

عندما ولد محمد عبدالكريم عبدالرحمن الوافي عام 1936، كانت سلطات الاحتلال الإيطالي في ليبيا قد أعدمت بطل المقاومة الوطنية عمر المختار قبل ذلك بخمس سنوات، وباشرت في العام نفسه رمي العديد من الشباب الليبي من أرجاء الوطن كافة في حرب الحبشة التي كانت نذيراً من نذر الحرب العالمية الثانية. كانت ليبيا تكاد تصبح شاطئاً رابعاً لروما..؟!.

في المرج، أو في "برقة"، الموغلة في القدم والرابضة فوق الجبل الأخضر والتي تحمل مسميات كثيرة لعل أجملها المدينة الحمراء، كما لقبها آنذاك العرب الفاتحون.. أرض شقائق النعمان، القرعون، المدينة التي ضربتها الزلازل أكثر من مرة أواخر العهد العثماني الثاني وأوائل العهد الإيطالي.. ثم عقب الحرب العالمية الثانية، ثم لآخر مرة في 21 فبراير1963.. المدينة التي ربطها الطليان ببنغازي بقضبان سكة الحديد المارة عبر الأبيار.. في المرج ولد الوافي وفتح بصره على الطبيعة الجبلية الرائعة و امتدادات "نطع المرج"، ودرس المرحلة الابتدائية هناك على يد مدرسين ليبيين رواد منهم "علي بوسنينة، أحمد الفاسي، إبراهيم الغرياني"، مفتاح الماجري، خليفة حسين طاهر، وكذا بعض المدرسين من مصر : "عبدالفتاح الدسيطي الذي أضحى وزيراً في عهد عبدالناصر، وعصام معوض شقيق الإذاعي المعروف جلال معوض، ورياض الجندي... وغيرهم" ممن كان لهم الفضل في غرس البذرة الأولى من التكوين والتثقيف الأول له ولأبناء جيله تلك الفترة. وحين اجتاز العاشرة من عمره "1946" رافق والده السيد "عبدالكريم الوافي" لأداء فريضة الحج وصار يعرف بين رفاقه بـ "الحويج" لصغر سنه.

هذه المرج.. المدينة الحمراء وسط الجبل التي شهدت ولادة الوافي ونشأته والتي أصبحت أول مركز ومقر رسمي للإدارة البريطانية في برقة عام 1943 قبل أن تتحول فيما بعد إلى بنغازي، كانت بيئة متنوعة لتواصل أناس وثقافة وجذور متباينة.. فقد ولد ونشأ فيها أيضاً "بشير السنوسي الهوني" المتوفى سنة 1946 أحد الليبيين المتنورين في فترة مبكرة من القرن العشرين الذي درس في الآستانة مع مجموعة من الشباب الذين أوفدهم "أنور باشا" للدراسة هناك، منهم ابن مدينة المرج الأستاذ "رمضان الطيار" الذي كان ناظراً للمدرسة التي تلقى فيها الوافي مرحلته التعليمية الأولى، هذه المدينة.. أقام بها وتوفي الشيخ "إبراهيم حويو" أحد علماء بنغازي عام 1936، وهو صاحب الفتوى الشهيرة بتحريم الدعاء لـ "موسوليني" من فوق منابر المساجد، كما عمل بها ثلاثة من شعراء ليبيا المعروفين في منصب القضاء والمحاماة في منتصف الأربعينيات: "إبراهيم الأسطى عمر، وإبراهيم الهوني، وعبد ربه الغناي"، إضافة إلى نشأة مثقفين آخرين أمثال القاص "يوسف الدلنسي، والشاعر حسن صالح، والدكتور علي الساحلي، والشاعر محمد المطماطي أخ الوافي من الرضاعة"، المرج.. كانت البيئة الأولى للوافي وربما طبيعتها الجبلية أعطته منذ الطفولة فرصة التأمل في الجمال والشوق إلى الفن والإحساس بالتذوق وحب الرسم وتشكيل اللوحات بمختلف الألوان.

بعد حصوله على الشهادة الابتدائية في المرج عام 1952 كان من المقبولين في معهد محمد بن علي السنوسي بالبيضاء الذي افتتحه الملك أواخر ذلك العام. لكنه لم يواصل، وحضر إلى بنغازي للالتحاق بالدراسة الثانوية، وكان من رفاقه من طلبة هذه المرحلة: "آدم الحواز، وأسعد المسعودي، وعمر يونس العرفي، وراشد الزبير السنوسي، والصادق النيهوم، ومنصور محمد الكيخيا، وجبريل الزروالي، وشعيب يونس المنصوري"... وغيرهم، كانت تلك محطة ثانية. كان طلبة المناطق المجاورة والبعيدة يتجمعون هناك في مدرستها الثانوية الوحيدة، كان المنهج الدراسي في أغلبه يتبع النظام التعليمي المصري، وكان المعلمون المصريون والكتب يخطفان الأبصار ويأسران عقل الوافي وجيله، وكان هناك معلمون ليبيون أيضاً.. وكان الطلبة البسطاء يكافحون في سبيل الأخذ بأسباب الدراسة والتعلم ويشقون الدروب بأقدام قوية في مناطق ليبيا كافة. كانت الأرض للوافي ولجيله آنئذ جاهزة محروثة رغم تراكم الصخور وعلو الأغبرة ومهيأة للغرس تماماً.

وعندما حل عام 1957 كان الوافي من ضمن العشر الأوائل الذين حصلوا على الشهادة الثانوية على مستوى المملكة الليبية المتحدة، ثم كان ضمن مجموعة من الطلبة الذين بلغ عددهم "31" طالباً كونوا الدفعة الثالثة في كلية الآداب والتربية، من بينهم أول طالبة ليبية تلتحق بالدراسة في الجامعة هي "فوزية حسين غرور"، وهذا العام كان علامة فارقة ومحطة مهمة في حياة جيل الوافي والوطن عموماً: تأسست كلية العلوم في طرابلس وكلية الاقتصاد والتجارة في بنغازي، والإذاعة الليبية، والكلية العسكرية الملكية، وتواصل ظهور الصحف والمجلات.. فصدرت مجلتا الضياء والنور في بنغازي، ونشرت أول مؤلفات لليبيين.. "الشابي وجبران" للتليسي، "الحنين الظامي" للرقيعي، "أحلام وثورة " لعلي صدقي عبدالقادر، و "نفوس حائرة" لعبد القادر بوهرّوس، وتأسس الهلال الأحمر الليبي، وواجه الجيش الليبي القوات الفرنسية في قرية "ايسين" قرب غات، وعلى المستوى الإقليمي والعالمي كانت الأحداث تتلاحق وتلتهب. فقد تأثر الجيل بقراءاته وبما يسود المنطقة من تفاعلات متوالية: "قضية الجزائر واختطاف زعمائها الخمسة، واعتقال جميلة بوحيرد، وثورة العراق، والإنزال الأمريكي في لبنان، وتعليقات صوت العرب، والمعارك الفكرية، والتيارات السياسية المتلاقية والمتباعدة، وخُطب الزعماء، والأفلام السينمائية، إضافة إلى القضايا المحلية والهم اليومي لأبناء المجتمع في ليبيا ".

هنا وجد الوافي مع نفر من جيله في الجامعة جواً جديداً ومحيطاً آخر فيه جلال العلم ووقاره، وفيه الاندماج والحراك. فلم يشعر الوافي بالفراغ وسعى مع غيره بكل تلهف وحنين لقراءة كل شيء. كانت المصادر متنوعة وموجودة حيث الجامعة فتحت مسارب أخرى لانتشار الوعي، مواسمها الثقافية، المركز الثقافي المصري، والأمريكي، وصالة المطالعة البريطانية، المكتبة المتجولة، مكتبة بوقعيقيص في ميدان الحدّادة، "هنا ظل الوافي مأخوذاً بترجمات منير البعلبكي وخاصة المتصلة بأعمال أرنست هيمنغواي ولوحظ إعجابه مع صديقه الحميم الصادق النيهوم بتلك الترجمات"، والأساتذة الرواد في الجامعة الذين قدموا من مصر فوجد نفسه أمام أستاذه "محمد عبد الهادي بوريده" الذي أنشأ قسم الفلسفة وكان مميزاً في نظر تلاميذه ومنهم الوافي الذي استهواه ذلك الأستاذ واستهوته الفلسفة بقضاياها وموضوعاتها وإشكالاتها لتمثل له فيما بعد مع مادة التاريخ، الذي هو في عين اللحظة فلسفة ومذاهب، خطاً مهماً في حصيلته العملية والعلمية، وبهذا اقترب الوافي من الفلسفة واحترق بنارها ثم ولاّها ظهره، فعشق التاريخ ووجد فيه ضالته بعشق الفيلسوف، والواقع أن "بوريده" اهتم بالوافي وتعاطف معه كثيراً وعرف عنه الجديّة والمثابرة ونمت بينهما علاقة رائعة.. علاقة الأستاذ بتلميذه، وتابع تحصيله وبراعته فيما يُكلف به من بحوث، وحدث أن توفيت والدة الوافي عام 1958، وهي سيدة فاضلة تنتمي لعائلة المجاهد "مفتاح بن قويرش" أحد رفاق عمر المختار في دور الجبل الأخضر، وكان الوافي في بداية السنة الدراسية الثانية من قسم الفلسفة ومر خلالها بأيام عصيبة لفقدها ولاحظ أستاذه "بوريده" ذلك فطلب أن ينتظره في عطلة يوم الجمعة "في محطة الرّكاب بالمرج" حيث حضر شخصياً وذهب رفقة تلميذه إلى المقبرة وظل فترة يتلو ماتيسر من القرآن الكريم على قبرها ويدعو طويلاً لها بالمغفرة، فكان لذلك وقع جميل في نفس الوافي ويذكرها بكل إعزاز وحب لأستاذه الجليل صاحب المسحة الصوفية، وقد أهدى الوافي إلى"بوريده" باكورة ترجماته الأولى عام 1970 وهو كتاب "تاريخ الفلسفة المعاصرة في أوروبا" لبوخينسكي، ومع "بوريده" والتأثر به كان هناك بالطبع الأساتذة "محمد على بوريان، وتوفيق الطويل، ومحمود قاسم"، ثم "الدكتور عبدالرحمن بدوي" الذي التقاه في باريس أثناء دراسته العليا وقدر جهود الوافي العلمية على الدوام. والحاصل أن الفلسفة التي تعني حب الحكمة كما يقال، لم تكن حلمه رغم حبه لها لكنها ألقت بظلالها عليه وأضحت ذات تأثير بالغ في حياته بطريقة أو أخرى. وخلال دراسته في الجامعة ولتأثره بقصص "محمد عبدالحليم عبدالله، ونجيب محفوظ، وهيمنغواي..." وغيرهم، كتب مجموعة من القصص باسم "محمد عبدالكريم" أذيعت منها اثنتان بصوت أخيه المذيع "محمد المطماطي" من دار الإذاعة في بنغازي، إضافة إلى ولعه بالفن التشكيلي ومتابعة شئونه فأبدع في رسم كثير من اللوحات الجميلة التي كانت تغطي جدران صالونه ومكتبته، واستعمل بعضها في تصاميم أغلفة مؤلفاته وتحقيقاته التاريخية. كان الوافي في ذلك كله فناناً يستلهم الأدب والفلسفة والتاريخ بروح المحب للجمال والحياة رغم ما يعترض تجربته من قسوة الأيام بعض الأحيان، كانت أعماله كلها عبارة عن لوحة واحدة راقية ومتكاملة.

تخرج الوافي في قسم الفلسفة في بنغازي عام 1961 بتقدير ممتاز وأوفد معيداً إلى فرنسا بتاريخ 28 ديسمبر 1961، وكان الوطن يحتفل بذكرى الاستقلال في عيده العاشر، حيث درس الفلسفة لمدة خمس سنوات وهناك اقترب من أجواء الحرية والانطلاق في السوربون والحي اللاتيني والمكتبات العريقة والمتاحف والمقاهي وجامعة اكس بروفانس وعاصر أنشطة زملائه الليبيين في تلك الفترة من خلال "اتحاد طلبة ليبيا" وغيره عبر صداقته لهم: "وحيد بوقعيقيص، ونوري الكيخيا، و منصور محمد الكيخيا، وعلي بوهدمه، ومفتاح ماضي، وساسي الحاج،... وغيرهم"، كما شاهد وعاصر عن قرب ثورة الطلبة أيام "ديغول" في مايو 1968 التي أثرت في الواقع الفرنسي والأوربي، وتعرف على الكثير من الطلبة العرب والأجانب والأساتذة والمستشرقين وفي مقدمتهم الأستاذ "جاك بيرك ".

حضر الوافي إلى ليبيا عام 1966 وكان قبل ذلك قد تزوج من سيدة ألمانية هي أم ولديه "خالد وجعفر" وعمل في شركة "إسو" مشرفاً على مجلة الحصاد التي نشر بها مقالة شهيرة بعنوان (الموت في الأعقاب) عن الروائي هيمنغواي، وعاد إلى باريس مجدداً في شهر مايو 1970 لمواصلة دراسته العليا في التاريخ حيث نال درجة الدكتوراه عن أطروحته بالفرنسيه عن "شارل فيرو.. سيرة قنصل في طرابلس في القرن التاسع عشر" عام 1976، كما عمل في الفترة من 1973 – 1977 مستشاراً ثقافياً لليبيا في فرنسا، ثم مندوباً مقيماً لبلاده في منظمة اليونسكو من عام 1977 وحتى عام 1979 ومثّلها في العديد من المؤتمرات العلمية ورجع إلى طرابلس حيث عمل في وزارة التعليم ثم قام بالتدريس في الجامعة بقسم التاريخ في طرابلس وبنغازي، وأشرف على طلبة الدراسات العليا لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه في فرعي التاريخ الإسلامي والحديث.

أنجز الوافي طوال حياته العلمية الكثير من المؤلفات والتحقيقات والترجمة عن الفرنسية التي كتبها بدم القلب: "الطريق إلى لوزان، يوسف باشا القرمانلي والحملة الفرنسية على مصر، منهج البحث في التاريخ والتدوين التاريخي عند العرب، الحوليات الليبية منذ الفتح العربي حتى الغزو الإيطالي، من داخل معسكرات الجهاد في ليبيا، الإغريق في برقة.. الأسطورة والتاريخ، الحوليات التونسية منذ الفتح العربي حتى احتلال فرنسا للجزائر، برقة في العصر الهلينستي من العهد الجمهوري حتى ولاية أغسطس"، ورغم تخصصه في التاريخ الحديث فقد سبر الوافي بكل قوة أغوار التاريخ القديم وهو موضوع صعب لا يجيده إلا المؤرخون الكبار مثله، ولعل عزلة المؤرخ التي حتمّت على الوافي أن يبقى أحياناً في صومعته مثل ناسك متعبد فرضت عليه التمترس بصرامة العالم المجتهد وجعلته ينصرف كلية إلى العمل العلمي دون سواه على مدار الأيام فأثرى المكتبة التاريخية الليبية بعطاءات فخمة ستبقى متوهجة بتفردها الوافي.
تقاعد الوافي عن العمل عام 1998 لكنه لم يتوان أبداً عن تقديم النصح والخبرة والمشورة العلمية لتلاميذه وإلى كل من يقصده وظل في بيته المتواضع الذي شيده برزقه الحلال ونقش على مدخله بخطه الجميل "هذا من فضل ربي" الذي ضمه مع زوجته الوفية السيدة : "د. حميدة العريبي"، وابنيهما: "معاوية وياسين"، التي وفرت له كل الأسباب لمواصلة إنجاح رسالته العلمية واستقبال طالبي المعرفة وزيارات أصدقائه ومحبيه الذين كانوا يسعدون بجلسات الوافي وظرفه وتعليقاته وحكاياته المشوقة في فصول التاريخ ومشاهد الحياة.

كان الوافي نتاجاً للمعاناة والصبر والحلم على الدوام بالأفضل والشعور العميق بالانتماء للوطن المترامي الأطراف.. كان ليبياً يحب ليبيا.. يعشقها.. ويتغنى بها.. ويؤرخ لأجيالها.. ويعتز بكونها وادياً " ذا زرع "، ونقل هذا الحب بصدق وأمانة إلى تلاميذه من دون تعال أو رغبة في منصب أو ظهور كما يفعل الكثير من التعساء والتافهين الذين اُبتلي الوطن الليبي بهم في غفلة من التاريخ.
هذا الوطن في أيام الوافي الأخيرة كان يصنع مستقبل أطفاله، ويكتب بالدم والدموع والغضب الساطع تاريخاً مشرقاً جديداً.. لكن الموت، وهو هاجس ظل يؤرق الوافي باستمرار، كان أسرع. فقد دخل في غيبوبة إثر سكتة دماغيه دامت قرابة أسبوعين، ويشاء التاريخ هنا "الذي أحبه الوافي" أن يلاقي وجه خالق العباد راضياً مرضياً في آخر يوم من شهر رمضان، صباح الثلاثاء 30 أغسطس 2011 وبعد أسبوع من وفاة أخيه "محمد المطماطي" في طرابلس فجر يوم 23 أغسطس 2011.

الوافي .. الموت في رمضان .. الرحيل. وهج التاريخ وصدقه يظل في أعماله الشامخة التي يصعب ان تنالها محاولات الطمس والتشويه !!