Atwasat

الحائط الأزرق أو التدوين الحر!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 01 ديسمبر 2020, 12:08 مساء
أحمد الفيتوري

تبدو المدونات كما لو كانت تحويل الشخصي إلى عام، كأن العام يستهدف في الأخير الشخصي، كل ما تقوم به الحكومات والمؤسسات.. إلخ، يرسو أخيرا من أجل إرضاء أشخاص، أيقونتهم المواطنة. لكن ما فعلته المدونات عبر الانترنت، أنها جعلت الشخص دون أيقونة، أو أنه مواطن عالمي، حيث كل مدون، كما لو كان يعيش في غرفة، يتمكن منها كل من يجيد لغته أن يطالعه .

وفتحت المدونات العالم، أمام المدون دون اذن من أحد، ومنحته أن يكون هو هو كما يحب ويرغب، وغصبا عن كل من يكره ويتذمر. فالمدونة كما لو كانت الدفتر الشخصي لأي منا، هذا الدفتر الذي نحب أن يطلع عليه، كل من يحب ويرغب .إذاً المدونة حريتنا التي نختارها عن جدارة، كما يختار من يحب الاطلاع عليها من عدمه. في هكذا حال تتنوع المدونات بتنوع البشر المدونين، بعضنا سيجعل منها مدونة حبيبته كما الشعر.

وفي هذا ثمة قصة شهيرة عن ستالين، أنه اطلع مرة علي ديوان شعري، لشاعر روسي مميز، وكان الديوان غزليات الشاعر في محبوبته، فتسأل ستالين كم طبع من هذا؟، أجيب 200 ألف نسخة، فأمر بأن ترسل جميع النسخ إلى الشاعر، كي يتدبر كيف ينقلها لمحبوبته. هكذا هو ستالين في كل زمان ومكان؛ ما ليس على هواه يصادره .

ولكن ما الفرق بين الموقع والمدونة؟، في تقديري كما الفرق بين الجريدة والكتاب، بمعنى أننا في الجريدة، نتوقع أن نجد العام يغطي الخاص، فيما الكتاب الخاص يعري العام، الكتاب أنا المؤلف، مفردة وبارزة هكذا كما في المدونة، وهذا قياس لكن في الحق، لقد تمت إزالة اللثام عن الحدود، بإزالة الحدود ذاتها.

ليس ثمة حدود: بيتي هو العالم، مع عالم الميديا والانترنت، وبالتالي أنا في كل العالم .

مرة في السنة الخامسة الابتدائية، مكنني مدرسي إبراهيم السحاتي، من أن أصدر جريدتي الحائطية وعنونتها بـ الشروق، كنت المحرر والمخرج .. إلخ ، في السجن أصدرت جريدة من نسخة واحدة من ورق السجائر، موضوعها السينما واسم الجريدة: "انتهي الدرس يا مسماري"، (المسماري كان صديقي وزميلي في السجن، وهو الكاتب والناقد الليبي الراحل ادريس المسماري، الذي أردت متبجحا ‘عطاءه درسا في السينما).

جميعا كنا صغارا، وجميعا كانت الحيطان مدونتنا، وفيما نخافه أو يخجلنا كانت حيوط المراحيض المدونة، بل كانت الحيوط جمعا، وسيلة معارضتنا في بلداننا حيث القمع راعينا. وتبدو المدونات، كما لو كانت استبدالا لتلكم الحيوط، بما هو خير وأنفع وأجمل. فالمدونة تمنحنا أن نكون أحرارا، حتى في إنكار أسمائنا والاكتفاء بكنية كمجهول مثلا، إنها تمنحنا أن نكون أشخاصا اعتباريين: معلق، مطلع، مشاغب، أهوج.. إلخ. ولم نعد بحاجة لتقديم أيقونة الهوية: الاسم والديانة والبلد.. إلخ .

صاحب المدونة، يلبس ما يحب ويتقنع بما يريد، وكذا المعلق حين نتيح امكانية التعليق، لقد تمكنا من التعري، دون غصب أن نري وجوهنا، المدونة نطلع عليها بما نحب أو ننضح، وهكذا تبدو المدونة إزاحة مضطردة للمسؤولية، باستثناء المسؤولية الأخلاقية التي هي مسؤولية ذاتية محض. هنا أعيد التذكير بالحيوط، حيث المرء ليس عليه حرج، غير ما تنضح به النفس اللوامة، أو النفس الراضية المرضية .

المدونة وسيلة بيضاء لا تحملك أية مسؤلية، غير ما تحمله على نفسك، (وسيلة: هكذا في الكثير من المدارس الليبية، يسمون الورقة البيضاء الكبيرة، التي توضع عليها الرسوم التوضيحية وغيرها). إذاً المدونة تمنحك أن تتعرى مخفيا عن الأعين، سنري أصابعك دون أن نتمكن من تحديد بصماتك، ستنضح كعين ماء أو مجارٍ أو بركان .. إلخ، نري النبع لكن لا نتمكن من معرفة المصدر، إن شاء أن لا يعرف، تعطيك المدونة طاقية إخفاء إن شئت. لكن تمكننا من الاطلاع على مكنونك، حتى ولو كان مكنونا مزورا، فالمدونة فضيحتنا في هكذا أحوال، أمام أنفسنا ليس إلا.

إذاً العالم الافتراضي، نزع الهوية كصورة واسم، لكن كشف الهوية الموضوعية، حيث كل إناء بما فيه ينضح.